معالم التوحيد في نصوص الإمام أمير المؤمنين
جواد علي كسار
لا نعرف ملابسات الواقعة على وجه الدقة لكن التأريخ ينقل لنا إجمالا، أن رجلا نهض في لجة حرب حامية هي حرب الجمل، فسأل الإمام أمير المؤمنين، أتقول: إن الله واحد؟ ما كان من الناس إلا أن حملوا عليه وعارضوه، متذرعين بأن الساحة ساحة معركة، والساعة ساعة حرب واحتدام السيوف، لا سؤال ومعرفة، وقالوا: يا أعرابي، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب؟ بمعنى انهمامه بالمعركة وتوجّه خاطره إليها؛ لكن ماذا كان موقف الإمام؟.
التوحيد وسط المعركة
رفض الإمام منطق المعترضين بحجة انهماكه بأمر الحرب ومنع عنه القوم، راداً عليهم ذريعتهم بأبلغ حجة، وهو يقول لهم: «دعوه، فإنَّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم» فليست المعركة معهم هي معركة اختلاف على المغانم والمواقف، بقدر ما هي بالمقصد الأسنى والهدف الأعلى؛ معركة من أجل التوحيد وتصحيح المعتقد.
على هذا التفت الإمام أمير المؤمنين، إلى الرجل قائلاً بإجمال: «إنَّ القول في أنَّ الله واحد، على أربعة أقسام، فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان يثبتان فيه». ثمّ أردف مفصلاً الكلام في الوجهين الممتنعين، بقوله: «فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما يجوز، لأنَّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال: ثالث ثلاثة. وقول القائل: هو واحدٌ من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه، وجلّ ربنا عن ذلك وتعالى».
وجه الاستدلال في كلام الإمام، أنَّ الله سبحانه إذا كان واحداً عددياً، فسيكون له ثانٍ وثالثٍ وهكذا، ما يؤدّي إلى الشرك بتصوّر المثل والنظير له وقوعاً أو إمكاناً، وهو ممتنع في التوحيد العلوي، كما استشهد له الإمام بمنطق من ذهب إلى أنَّ الله ثالث ثلاثة، في قوله سبحانه: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ (المائدة: 73).
وإذا كان الإمام قد نفى في الجهة الأولى من كلامه الوحدة العددية، فقد رام في الجهة الثانية نفي التجزئة والتركيب، ليثبت له الواحدية غير العددية والأحدية معاً.
الوحدة القهارة
بالعودة إلى كتاب الله سبحانه نلمس في آياته إصراراً على قرن واحدية الله بالقهّارية، كما في قوله: ﴿وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ (العنكبوت: 46)، ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ (يوسف: 39) و﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ (ص: 65) فماذا يعني بذلك؟
بالعودة إلى سؤال يوم الجمل، يستكمل الإمام أمير المؤمنين جوابه، بذكر الوجهين الجائزين في بيان المراد من «الواحد» عند إطلاقه على الله سبحانه، وهو يقول: «وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه، فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا؛ وقول القائل: إنه عز وجل أحدي المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربنا عز وجل».
هذا هو الله في واحديته القهّارة، أحدي المعنى، بسيط لا تركيب فيه، لا يُفرض له ثانٍ مماثل بوجه قطّ، فضلاً عن أن يكون لهذا الثاني تحقّق في الخارج؛ واحد قهار لا ينقسم في وجود (كانقسام الإنسان إلى بدن وروح) ولا في عقل (كانقسام الماهية إلى أجزائها الحدّية) ولا في وهم (كانقسام قطعة خشب إلى النصفين في التصوّر).
بهذه الوحدة الأحدية القهّارة غير العددية تهتف نصوص أمير المؤمنين، في مثل قوله: «واحدٌ لا بعدد»؛ «الأحد بلا تأويل عدد»؛ وقوله: «وكلّ مسمى بالوحدة غيره قليل»؛ وكذلك: «من وصفه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله» لأنه إذا ما قيل إنه سبحانه واحدٌ عددي، فسيكون حادثاً، والتالي باطل فالمقدم (أي القول بأنه سبحانه واحد عددي) مثله.
البناء المنطقي
بترتيب آخر؛ إذا ما قيل إنه سبحانه واحد عددي لكان حادثاً، ولو صار حادثاً لاحتاج إلى محدِث، وإذا احتاج إلى محدِث صار ممكناً وليس واجباً، وانقلب فقيراً بحسب تعبير القرآن ولم يعد غنياً، وذلك لاحتياجه إلى إيجاد الغير له، والفقير هو ما يحتاج إلى الغير.
ثمّ بناء منطقي آخر يبرز من كلمات الأمير ودرره التوحيدية، يفضي إلى النتيجة نفسها. فلو قيل إنَّ الله سبحانه معدود فمعناه أنه محدود، وإن كان محدوداً فمعناه أنه كان معدوماً ثمّ وجد، بمعنى أنَّ وجوده كان مسبوقاً بالعدم، وإذا كان وجوده مسبوقاً بالعدم كان حادثاً، وإذا صار حادثاً احتاج إلى من يُحدثه وأصبح ممكناً، وإذا أصبح ممكناً لا يمكن أن يكون واجباً، لأنَّ الممكن يكون فقيراً وليس غنياً، والقرآن يسجّل صراحةً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (فاطر: 15).
من خصائص المنطق العلوي في المعرفة التوحيدية اتسامه بحلقات من بناءٍ منطقي فذ، تعكس مقولاته تسلسلاً منطقياً، يستبطن الأشكال الاستدلالية والبرهانية، لكن بلغة أكثر إشراقاً من لغة البحث المنطقي والفلسفي، كما هو بائن بعمق في هذه الكلمات مثلاً، على وجازتها: «من أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه».
لذلك ذكر باحث متضلّع بالبحث الفلسفي والعقلي، عدم الحاجة للبحث الفلسفي المستقل، عندما يُنظر إلى مسائل التوحيد من خلال نصوص الإمام أمير المؤمنين، وما فيها من مسلك الاحتجاج البرهاني التام؛ حين كتب نصاً: «لهذا بعينه تركنا عقد بحثٍ فلسفي مستقل لهذه المسألة (قضايا التوحيد) لأنَّ البراهين (الفلسفية) الواردة في هذا الغرض، مؤلفة من هذه المقدّمات المبيّنة في كلامه، لا تزيد على ما في كلامه بشيء»، (الميزان في تفسير القرآن، ج 6، ص 104).
أفنبيٌّ أنت؟!
وثّق السجّل المعرفي لمدوّنات الإمام أمير المؤمنين عن التوحيد محاورات كثيرة، منها أنَّ حبراً من الأحبار جاء إلى الإمام، فقال: يا أمير المؤمنين متى كان ربّك؟ فقال له: «ثكلتك أمّك، ومتى لم يكن حتى يُقال: متى كان؟! كان ربي قبل القبل بلا قبل، وبعد البعد بلا بعد، ولا غاية ولا منتهى لغايته، انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كلّ غاية». هنا يبهُت الرجل، وتُبهره هذه الكلمات فيبادر الإمام، بقوله: أفنبيٌّ أنت؟! فما كان من الإمام أمير المؤمنين إلا أن ينتفض وتهزّه هذه النسبة من الأعماق هزّاً، ويردّ على حبر اليهود، بقوله: «ويلك، إنما أنا عبد من عبيد محمد
صلى الله عليه وآله».
هل رأيت ربّك؟
للسؤال دوره في نموّ المعرفة وإثرائها لاسيّما إذا اتصف السؤال بالجودة والعلم، حتى جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: «حُسن السؤال نصف العلم»، وعن الإمام علي: «من أحسنَ السؤال عَلِمَ»، وكذلك: «من عَلِمَ أحسن السؤال» ليرسم بذلك جدلية هي غاية في الإحكام بين العلم والسؤال. ومع ذلك حذّرت النصوص الإسلامية من مغبّة السؤال حين تكون دوافعه التعنّت والمباهاة، وليس الفهم والاسترشاد وتحصيل المعرفة، وهي تدعو: «سل تفقّهاً
ولا تسأل تعنّتاً».
بالعودة إلى الإمام أمير المؤمنين، فلم يعهد تأريخ الإسلام أنَّ أحداً بادر في حياة المسلمين لدعوتهم إلى أن يسألوه عمّا بدا لهم، هكذا بشكلٍ مطلق، إلا ما هو مأثور في مصادر الحديث والتأريخ، مما سجلته من دعوة الإمام، وقوله مرّات: «سلوني قبل أن تفقدوني».
يبدو أنَّ هذه الدعوة الشجاعة من أمير الحكمة والمعرفة استفزّت بعضهم، ومنهم رجل من اليمن يُقال له «ذعلب» يوصف أنه ذرب اللسان، بليغ في الخطب، شجاع القلب، إذ علّق لمن حوله: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة، لأخجلنه لكم في مسألتي إيّاه!
كان الإمام لم يزل يتحدّث إلى الناس عندما انبرى إليه «ذعلب»، سائلاً: يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربك؟ أجاب الإمام: «ويلك يا ذعلب، لم أكن بالذي أعبد رباً لم أره». سأل «ذعلب» مجدّداً: فكيف رأيته، صفه لنا؟ قال الإمام: «ويلك يا ذعلب، إنَّ ربي لا يوصف بالبُعد ولا بالحركة ولا بالسكون، ولا بالقيام قيام انتصاب، ولا بجيئةٍ ولا بذهاب، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة».
ثمّ أضاف عليه السلام: «مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمجسّة، قائل لا باللفظ، هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج... كان رباً إذ لا مربوب، وإلهاً إذ لا مألوه، وعالماً إذ لا معلوم، وسميعاً إذ لا مسموع».
لقد كان لهذه المعاني وقع ثقيل على عقل السائل ونفسيته، ففاق مستوى تفاعله معها التفاعل الشعوري إلى الصدمة، إذ تسجّل المصادر التي وثّقت للواقعة أنَّ «ذعلباً» خرّ مغشياً عليه، ولما أفاق، قال: تا الله ما سمعتُ بمثل هذا الجواب، والله لا عدتُ إلى مثلها!
إشكالية الفعل الإنساني
يمكن القول إنها ليست إشكالية، بل هي فعلاً عويصة الفكر الإنساني والديني في ثنائية الجبر والتفويض، هذه العويصة التي وإن أنقذتنا منها نظرية الأمر بين الأمرين، إلا أنها أطلت برأسها مجدّداً عبر معضلة التوفيق بين المدلول العملي للنظرية، فيما تذهب من هيمنة الإنسان على مصيره بإذنٍ من خالقه، وامتلاكه الحرية في تقرير هذا المصير بنفسه كما يشاء؛ وبين الإيمان بالقضاء والقدر.
الكوفة حاضرة العلم والفكر والجدل عاشت هذه المحنة، إذ يحدّثنا التأريخ أنَّ أمير المؤمنين مرّ بجماعة في الكوفة وهم يختصمون في القدر، فسأل متكلمهم: «أبالله تستطيع، أم مع الله، أم من دون الله تستطيع؟!» فلم يُدرِ ما يردّ عليه، لأنه إن قال إنه يملك الاستطاعة بالله، فلن يكون له من أمر الاستقلال بقدرته وفعله شيء، وإن قال إنه يملكها مع الله صار شريكاً له، وإن زعم أنه يملكها من دون الله فهي الربوبية!
محنة عباية الأسدي
المفهوم نفسه تكرّر في ما ذكره المؤرخون من أنَّ عباية بن ربعي الأسدي، سأل الإمام عن الاستطاعة، فردّ عليه أمير المؤمنين: «إنك سألت عن الاستطاعة، فهل تملكها من دون الله أو مع الله؟» سكت عباية ولم يحر جواباً، لأنه لو قال أملكها من دون الله، فهذا هو التفويض، ولو قال أملكها مع الله، فهو الشرك، إذ سيكون الله والإنسان شريكين في الفعل الواحد. وبين المحذورين لم يجد عباية مخرجاً من المأزق إلا أن يلوذ بالصمت، فما كان من الإمام أمير المؤمنين، إلا أن أعاد عليه الكرّة مجدّداً، وهو يقول: «قل يا عباية»، قال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟.
هنا جاء دور الإمام كي يعلّم عباية المخرج من هذه المسألة الشائكة، وهو يقول له: «تقول: تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملككاها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك».
لا يأخذنا الوهم إلى أنَّ الاختلاف لفظي شكلي لا قيمة له، فقد استعمل النص العلوي ثلاثة حروف للجرّ: من، مع والباء، يؤدّي كلّ واحد منها إلى مبانٍ ثلاثة من أشهر ثلاثة تيارات فكرية في المسألة راجت بين المسلمين، هي الجبر الأشعري، والتفويض الاعتزالي، والموازنة بينهما في الأمر بين الأمرين. فملكية الإنسان أي شيء هي بالله، ومن ثمّ لا يخرج ذلك التمليك من سلطانه وملكه ومشيئته. كما أنَّ ما يقدر عليه الإنسان هو بإقدار الله، وعندئذ لا يخرج ما عند الإنسان عن قدرة الله وسلطانه ومشيئته، وفي ذلك ردّ صريح لنظرية التفويض المعتزلي.
من جهة أخرى حفظ النص العلوي أصل العدل الإلهي بنسبة الفعل إلى الإنسان مباشرة، كما في قوله: «والقادر على ما عليه أقدرك» فالإنسان قادر على الفعل، والفاعل المباشر هو الإنسان، وهذا ردّ صريح على الاتجاه الجبري وقد سلب الإنسان مسؤوليته عن أفعاله.
شيخ صفين
في أفق القضاء والقدر نفسه وما يثيره الإيمان به من إشكاليات، يدخل شيخ عراقي على الإمام أمير المؤمنين بعد انتهاء معركة صفين، فيسأله: أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام أبقضاءٍ من الله وقدر؟ أجاب الإمام: «أجل يا شيخ، فوالله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن وادٍ إلا بقضاء من الله وقدر». ظنّ الشيخ أنها الجبرية والحتم، وإن ما بدر منهم كان حتماً لا مفرّ منه، وإذن فلا ثواب لهم فيه ولا أجر، فقال متحسّراً: عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين!
بادره الإمام أمير المؤمنين من فوره: «مهلاً يا شيخ، لعلك تظنّ قضاء حتماً وقدراً لازماً! لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر، وسقط معنى الوعيد والوعد، ولم يكن على مسيء لائمة ولا لمحسن مَحمَدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولى بالإحسان من المحسن. تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الأمة ومجوسها»، إلى آخر كلامه عليه السلام.
يؤكد النص العلوي بجلاء سريان القضاء والقدر في كلّ حركة وسكنة وفعل، بيدَ أنه يضرب بقوّة على مساواة الإيمان بهذا المبدأ، بالجبرية وتعطيل الإرادة الإنسانية وإلغاء حرية الإنسان واختياره ومسؤوليته.
خمسون خطبة من نصوص الإمام في «نهج البلاغة» وحده، تناولت عمارة المعرفة التوحيدية ومنحتها هندسة فاقت التراث التوحيدي للأديان السالفة، وتقدّمت بمراتب نوعية كبيرة على ما بلغنا من تراث المسلمين العقدي كلامياً وفلسفياً، عدا ما هو مبثوث في الكتب والنصوص الأُخر، ما يؤلف بمجموعه منهجاً فريداً قائماً بنفسه بالمعرفة التوحيدية، من بين معطياته الفرعية التي قلما انتبه إليها أحد، أنه أعطى اللغة العربية قدرات هائلة في بناء المصطلح الفلسفي وتكييفه.
ولا غرو وهو القائل في أول خطبة من خطب النهج: «أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده».