د. حامد رحيم
مساهمة متواضعة في سوق العراق للأوراق المالية للشركات العاملة في مجال الإنتاج الزراعي، وهو مؤشر واضح إضافة إلى المؤشر الاخر والمهم جدا المتمثل بالناتج المحلي الإجمالي والذي تشكل فيه مساهمة القطاع الزراعي معدل نسبة لا تتجاوز (5 %) فقط من اجمالي الناتج، وكل هذا في ظل ميزات نسبية يمتلكها العراق كبيرة جدا فهو المعروف تاريخيا (بأرض السواد).
لتخلف هذا القطاع آثار كبيرة معروفة للمراقب فمؤشر (الامن الغذائي) يعتمد بشكل كبير، والذي افتقدناه وتحول الاقتصاد العراقي على اثرة إلى اقتصاد مرهون في امنه الغذائي للشريك التجاري بالخصوص تركيا وايران الامر الذي يشكل تهديدا إستراتيجيا يضعف من مكانة العراق، ناهيك عن تحول الواردات إلى استهلاكية لا تقدم شيئا في اطار تحقيق التنمية الاقتصادية، ولا يفوتنا أثر مهم لتخلف الزراعة يتمثل بفقدان ميزات حجم العمالة المفترضة لهذا القطاع وتخلف الريف ومن ثم الهجرة من الريف إلى المدن وما يترتب على ذلك من مشكلات اقتصادية واجتماعية.
ان عوامل هذا التراجع عديدة ولا مجال لسردها في هذا المقال، ولنشير إلى (نمط العلاقات) السائد فيه، فهذا العامل الذي يرسم نمط الملكية والعلاقات السائد بين الأطراف التي تعمل ضمن عملية الإنتاج، والتي يؤثر إلى حد كبير في مدى تطور وتخلف الإنتاج في الوحدات العاملة، وفي اطار التجربة التاريخية لأوروبا، التي كانت في عصورها الوسطى تمتاز بهيمنة الاقطاعيات الكبرى وعلى رأسها الكنيسة في ظل علاقات (الاقنان) والتي كانت احد اهم أسباب الحركات الثورية التغييرية فيها، والتي ساهمت تلك العلاقات بتخلف الإنتاج الزراعي وعكست نمط مشوه لتوزيع عوائد النشاط الزراعي، ومن ثم كان لتغيير نمط العلاقات السائد باتجاه (الإنتاج الرأسمالي) الوفير الذي يستند إلى (الشركات المنتجة)، بدل ثنائية الاقطاعيات الكبرى والاقنان الأثر في تحقيق قفزات الإنتاج الكبيرة.
في العراق لم تكن المعالجات للقطاع الزراعي جوهرية، ولم تستهدف نمط العلاقات، فالقانون الأهم في مجال الإصلاح الزراعي ذي الرقم (30 لسنة 1958) تضمن إعادة توزيع الأراضي الزراعية على الفقراء وصغار الفلاحين على حساب تفكيك منظومة الاقطاعيات الكبرى الموروثة عن العهد العثماني، وظلت المعالجات تحوم حول تلك المحاور لتنظم العلاقة بين الدولة والفلاح عبر سياقات تعاقد طويلة الأجل بين الفلاح والدولة لإيجار الأراضي وسياسات دعم للمنتج الزراعي، سواء بالمدخلات من اسمدة وبذور ووسائل ري وغيرها والمخرجات عبر تسويق المحصول إلى الدولة بأسعار مدعومة.
حتى عام التغيير السياسي وما بعده اذ تدهور الإنتاج الزراعي بشكل كبير في ظل نمط علاقات عائلية ممتدة، اذ يحتكر الفلاح واسرته الأرض الزراعية، بالخصوص تلك التي تعود ملكيتها إلى الدولة والمؤجرة إلى الفلاح بعقد طويل الاجل، ناهيك عن بعض الاقطاعيات الكبيرة المملوكة في بعض مناطق العراق والتي تستأجر الفلاحين للعمل.
إن تغيير نمط العلاقات للتحول نحو الإنتاج الواسع يستلزم تحولا جوهريا في السياسات الزراعية، بمعنى أن تحقيق نهضة في مجال قطاع الزراعة يستلزم حزمة قوانين جديدة تنظم الملكيات الزراعية عبر قيام وزارة الزراعة بدورها لدعم تأسيس شركات انتاج زراعي، بدل العلاقات العائلية وإن استلزم الامر انشاء (صندوق سيادي)، يمول انشاء الشركات واخضاعها للحوكمة وتسجيلها في سوق الأوراق المالية وغيرها من الشروط، التي تضمن الانتقال نحو الإنتاج الواسع المستند إلى التنافسية مع الحماية التجارية على الأقل في بدايات التأسيس.
هذه الخطوات كفيلة بإعادة توصيف النشاط الاقتصادي الزراعي في اطار العلاقات الحاكمة للإنتاج، لإعادة احياء الريف العراقي وخلق أسباب التوطين وتحقيق الامن الغذائي وتقليص حجم الواردات الاستهلاكية بالاستفادة من التجربة الناجحة في أوروبا وانتقالها من نمط علاقات الاقطاعيات إلى الإنتاج المؤسساتي.