د. نادية هناوي
تتسم كتابة السيرة الذاتية بأنها انفرادية وعادة ما يكون البطل السيري كائنا فريدا ينتمي للعالمين الافتراضي المتخيل والواقعي المعيش. وإذا خصصنا القول في السيرة النسوية فان الفردية في كتابة تاريخ النسوية ستكون هي المرأة في المستويين:
المستوى الخارجي/ الذي يظهر في شكل ممارسات كتابية أو شفاهية تعكس تاريخا طويلا كافحت عبره المرأة لرفع الظلم عنها.
المستوى الداخلي/ الذي يظهر في صورة بواعث لا شعورية وترسبات شبه جينية تحملها كاتبة السيرة في دواخلها وتظهر في كتاباتها بطريقة تلقائية.
بهذين المستويين تتمكن الفردانية في الكتابة السيرية النسوية من تغيير فكرة، كثيرا ما ترسبت في الأذهان وهي أن المرأة ضعيفة متسرعة تتحكم فيها عواطفها وهي غير قادرة على الحكم بسبب نقصان عقلها، كما ستتجلى التمظهرية النسوية في الكتابة السيرية سواء في علاقة النساء مع بعضهن أو في علاقتهن مع أنفسهن أو في مواقفهن من مظاهر توسم بأنها نسوية ولكنها قد تكون في حقيقتها من تمريرات فعل الذكورة وتوجيهاتها التي بها تريد حصر النسوية في خانة مجتمعية معينة لا غير. وصحيح أن التاريخ الرسمي نقل إلينا بعض السير الذاتية والتراجم لشخصيات نسوية كملكات واميرات وقديسات، لكن ذلك لا يعد من التاريخ النسوي في شيء بسبب تحكم مواضعات النظام الذكوري في تلك السير والتراجم ومن تلك المواضعات أن الانوثة شائهة والامومة مفقودة والعاطفة ناقضة للعقل.
إن السيرة الذاتية النسوية هي الكتابة السيرية التي تنتجها ذات نسوية تستلهم تاريخها الشخصي مستثمرة تفاصيله الخاصة والعامة الإبداعية والمهنية الحسن منها والسيئ. وقد تتخذ الكتابة السيرية طريقة المذكرات او اليوميات او الرسائل او الاعترافات، لكن المهم أن تظل السيرة الذاتية تمثيلا سرديا به نستدل على التاريخ
النسوي.
وعادة ما يبرع الرجال في كتابة سيرهم الذاتية أكثر من النساء بسبب هذا التلاقي ما بين ( أنا المؤلف وأنا السارد) وما يتطلبه تلاقيهما من جرأة في المكاشفة والبوح بخصوصيات الشخصية وإعلان أسرارها للملأ عبر نقلها من منطقة الذات إلى منطقة المجموع. والرجل تبوئه الثقافة الذكورية السائدة أن يكون هو الأقدر على الكتابة بلا تحرزات او ضغوط أو موانع أو مكبلات.
ولو أحصينا ما كتب من سير ذاتية لوجدنا أن ثلاثة أرباعها رجالية وربعا أو اقل هو سير ذاتية نسوية بغض النظر عن اختلاف هذه السير في مقدار درجة البوح ومستوى الإعلان والمكاشفة والسبب ضغوطات المنظومة الثقافية ومكبلاتها الأخلاقية ومواضعاتها الأدبية الصارمة.
إن الكاتب لا يتحرز من ذكر أمور كثيرة تتحرز الكاتبة من ذكرها، وقد تغاير هذه الكاتبة ما تظهره لها ذاكرتها بآخر يغطيه ويتستر عليه لكنها في المجموع ستدلي لنا بتاريخها الشخصي لنقرأه لا على أساس أنه كتابة ذاتية وإنما كتابة سردية فيها الأنا الساردة هي أنا المؤلفة. وقد لا تكون كذلك على أساس أن الذات حينما تكتب سردا تنشطر الى كيان اخر يخالف كيانها الاصلي فيكون بمثابة ذات ثانية للمؤلف كما يسميها واين بوث. وهذا ما نجده في السير الغيرية، التي فيها تكتب امرأة سيرة امرأة أخرى كما فعلت الألمانية تيسا كوربر في رواية (ملكة القوافل) الصادرة بترجمة عربية عام .2009 وفيها ترجمت كوبر حياة زنوبيا مستثمرة المتخيل التاريخي في التعبير عن هذه الشخصية طفلة ويافعة وشابة وامرأة وقائدة وأسيرة.
وتبدأ هذه الرواية من النهاية حيث زنوبيا مستسلمة وذليلة وقد تركت السياسة والحكم وجلست تكتب رسالة إلى اودو صديقها الذي مات من أجلها وترك ابنة سماها على اسمها لتقوم هي برعايتها ثم تنتهي في ما كانت قد بدأت به. وباستعمال تيار الوعي تتوضح دواخل متضادة في هذه الشخصية المركبة بالتحدي والجرأة والمراوغة والمخاتلة. وفي خضم السرد التخييلي يتم توضيح بعض الامور التاريخية حول العلاقة العدائية ما بين الرومان من جهة والفرس والعرب من جهة أخرى، مع بعض التشكيك في المرويات التاريخية التي قد تستبدل بحكايات اسطورية وضعتها المؤلفة على لسان مربية زنوبيا، مؤكدة أن كثيرا مما نقله الينا التاريخ الرسمي محرف ومزيف وغير دقيق أن الروم أقوى شكيمة من العرب التي أبدلتها الكاتبة بأن العرب كانوا أمة لها الهتها ومعاملاتها التجارية وتقاليدها واخلاقها.
ويصل التشكيك والنقض الى النظام الابوي فتثبت المؤلفة بطلان ما أشاعه هذا النظام من أن المرأة عدوة المرأة وأن الغيرة حاضرة دوما بينهما وذلك من خلال شخصية كليليا التي ستكون الحارسة الامينة لزنوبيا لكنها تقتل في سبيل انقاذ حياة زنوبيا، في اشارة واضحة الى أن النظام الامومي نظام مسالم فيه علاقة الانثى بالانثى هي علاقة تضحية وحب دائم وليس علاقة عداء وانتقام كما تروج له الادبيات الذكورية.
بيد أن هناك مواضع في الترجمة لحياة زنوبيا تشي بالخيبة بإزاء مواجهة المؤلفة للنظام الابوي ففي الوقت الذي أرادت فيه لزنوبيا أن تكون قادرة على ادارة الحكم وممارسة القتال والتخطيط للادارة والقيادة، نجد زنوبيا تحصل على بغيتها بالاحتيال مرة من خلال زواجها من اوديناتوس واخرى في انجابها لابنها الذي ما كان سوى خطة كي تكون هي الملكة، ناهيك عن جعل حياتها مأساوية في نهاية المطاف وقد رضخت للحتمية الذكورية، وكأن تعدي الانثى على حدود الذكورية ومحاولتها التوازي معها ومضاهاتها حنكة وقوة لن تكون محصلته إلا الخسارة والندم.
ولكي تماشي المؤلفة ايضا فكرة أن المراة ناقصة الاهلية فإنها تأتي بشخصية الحكيم لونجينوس كي يساعد زنوبيا ويمنحها الحكمة والفلسفة.
وصحيح أن هذه المحصلة تصب في صالح النظام الابوي بيد أن المؤلفة لم تغفل عن تأكيد البعد الأنثوي في شخصية زنوبيا التي لم تكن محاولتها في حكم تدمر التشبه بالرجال؛ وانما أرادت استعادة تاريخ كانت فيه المرأة هي المتسيدة بقوتها وحكمتها وجسدها، وهذا ما أفادها حين وقعت في فتنة اورليان” سوف ألفه مثلما لفت كليوباترا القيصر” الرواية، ص459. ولهذا صارت زنوبيا كما يرى هادي العلوي “من عجائب التاريخ النسوي، يصعب العثور على قرين لها في النساء ويمكن اعتبار جان دارك الفرنسية نسخة منها لكنها نسخة مبسطة وأقل ايحاء”. (فصول عن المرأة، ص27 ).