المربّعات.. فنٌّ شعبيٌّ ولونٌ غنائيٌّ شارفَ على الاندثار
رحيم رزاق الجبوري
يمتاز الفن الغنائي العراقي بتعدد مدارسه وألوانه وأساليبه. وقد ظهر في بدايات القرن المنصرم لون غنائي جميل في الساحة الفنية ألا وهو {فن المربعات} الذي ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسة: المربع البغدادي، ومربع الفرات، ومربع الناصرية.
ويعتمد على مجموعة من الأدوات التي تتألف من مطرب وعازف طبلة وخشبة ودف، فضلا عن الكورال المصاحب، وكل واحد من هؤلاء له دور محدد في رسم اللوحة والصورة الغنائية التي تعتمد في الدرجة الأساس على قصيدة شعرية مكتوبة بشكل جيد ومحبوك ومؤثر تناقش وتطرح مواضيع اجتماعية مختلفة وسائدة آنذاك من غزل ومدح وهجاء ووصف وغيرها، وتتكون من أوزان مخصصة لهذا الغرض، حيث يبدع ويتفنن فيها مؤدو هذا اللون الغنائي الشعبي؛ مشفوعا بحركاتهم وتصفيقاتهم وأساليبهم المتنوعة مع أداء تمثيلي يضفي جوا مفعما بالبهجة والسرور؛ فتجذب وتكسب الجمهور الذي يتفاعل مع انتهاء كل وصلة غنائية منها. ولهذا لا زالت ذاكرة العراقيين تحتفظ بجمال وسحر هذا اللون الغنائي الفلكلوري الذي شارف على انحسار فعالياته ونشاطاته؛ لعدة أسباب سنتناولها في سياق بحثنا هذا، إضافة إلى التعرف أكثر على نشأته وتسميته وأبرز فنانيه وغير ذلك.
فنٌ شعري
إلى ذلك يقول عادل العرداوي (صحفي وباحث في الشأن التراثي والفولكلوري): إن "فن المربعات هو بالدرجة الأساس فن شعري قائم بحد ذاته. وينظمه الشعراء على عدة أوزان من أوزان الشعر الشعبي المعروفة والمتداولة لديهم، ومنها: (التجليبة، والچلمة ونص، والموشح، ومجزوء التجليبة، ومجزوء الموال والميمر) وغيرها من الأوزان الأخرى".
ويضيف، العرداوي، بالقول: "ولسهولة وبساطة هذا الفن فقد أصبح فنا غنائيا اكتسب شعبية واسعة بين الناس خاصة في أوقات الفرح والسرور والأعراس، واشتهر كثيرا في مدينة بغداد وأطرافها وبرز فيه مجموعة متميزة من القراء والمؤدين الذين اختصوا وبرعوا في أدائه أمام الجمهور مباشرة بمرافقة الآلات الموسيقية مثل الطبل والطبلة والدف والكمان والعود وغيرها. ومن أبرز المؤدين السابقين واللاحقين لهذا اللون الغنائي، هم كل من: محمد الحداد وأبو عبد ومحمد العاشق والحاج صالح هادي وجاسم الشيخلي وإبراهيم عگرب وعلي شاكر وقيس الأعظمي وغيرهم الكثير".
تراث بغدادي أصيل
بدوره يذكر الباحث التراثي ضياء صلاح الدين أبو علوش، في مداخلته: "أن فن المربعات يصنف ضمن التراث البغدادي الأصيل، حيث رافق أفراح البغداديين من سكان العاصمة العراقية ومسراتهم لفترات طويلة، والمربعات البغدادية تروى قصصا غنائية تحاكي الواقع بطريقة شعبية تراثية وشكلت أحد الطقوس السائدة في القرن الماضي، ومارسه البغداديون في محافلهم ومناسباتهم، ويمتاز بكلماته التقليدية ولحنه الثابت، وهو بمثابة قصة قصيرة تروي حالة معينة".
فن صعب للغاية
ويضيف أبو علوش: "أن فن المربعات البغدادية، يعتبر من الفنون الصعبة للغاية، بسبب عدم مصاحبته لأي آلة موسيقية وترية حتى تساعد المطرب. وأهالي بغداد كانوا يأدونه في كل حفلات الزواج والحناء والختان، وهو لون من ألوان الغناء الشعبي التراثي، الذي كان سائدا في المحلات الشعبية القديمة كمنطقة الفضل وباب الشيخ والأعظمية، ويعكس الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبغداديين".
لونٌ تراثيٌّ وشعبي
فيما يشير الباحث والناقد الموسيقي شكر مرزوك العبيدي، بالقول إلى أن "المربع البغدادي فن عراقي انفرد وتميز به العراق عن سائر دول الوطن العربي وهو لون من ألوان الغناء الشعبي التراثي البغدادي القديم الذي كان يغنى باللهجة العامية، نشأ في بعض المحلات الشعبية القديمة كمنطقة الفضل وباب الشيخ والأعظمية. وكان هذا اللون من الغناء الشعبي يؤدى من قبل شخص واحد يقف في وسط حلقة ويرتدي الملابس البغدادية الخاصة بالمربع، كالصاية والچاكيت وحذاء الروغان والچراوية وتستعمل آلة الطبل (الدنبگ) من الشباب الذين يشكلون نصف دائرة ويسمونهم بالرادودة وكثيرا ما نرى المغني أو المطرب يستخدم حركات بيديه أو ببعض أجزاء جسمه المنسجمة مع المربع عند الأداء، ويعكس المربع البغدادي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبغداديين القدماء وفيه من المتعة والسعادة للمجتمع البغدادي، وقد أجاد في هذا النوع من الغناء مطربون كثر أبدعوا فيه وأعطوه وما زالوا يعطون إيمانا منهم بأنه تراث وارث حضاري لا بد من المحافظة عليه".
أصل التسمية
وعن سبب تسميته بالمربعات، يقول مرزوك: "سمي هذا اللون الغنائي بالمربع؛ لأنه يتكون من أربعة أشطر ينتهي بقفل ويسلم بالمستهل، أما أنواعه فهي كثيرة أشهرها المثمن، والمخمس، والمسبع، والنثر، والحسچة، وكلمة ونص. وكان للمربع في كل كلمة من كلماته تعبير عن الحياة البغدادية القديمة في كل جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وأول من غنى المربع البغدادي المطرب محمد الحداد وأن كان قد سبقه مطربون آخرون غنوا هذا اللون وأجادوا فيه".
طقوس
وعن بدايات ظهوره وانتشاره، يكمل العبيدي، حديثه، قائلا: "بدأ الغناء في المربع البغدادي قديما في حفلات الزواج والختان والحناء التي كانت تقام في بعض المحلات البغدادية القديمة كالجعيفر وباب الشيخ والفضل والأعظمية والتي كانت خالية من الكهرباء حيث كان يستعاض عنه بالفوانيس والشموع ويطلق على تلك الحفلات التي كانت تقام في تلك الأيام اسم (دومة) والتي تبدأ من العشاء إلى شروق الشمس معتمدة على قوة الصوت للمطرب لعدم وجود مكبرات الصوت آنذاك. وبعد وصول الكهرباء وانتشار الأجهزة الكهربائية وخاصة الصوتية منها تحول الغناء في حفلات الختان والأعراس والتي كانت تقام في النوادي وقاعات الأعراس حتى تمكن هذا الفن من الوصول إلى التلفاز والظهور على شاشاته وعلى الهواء مباشرة بفضل وبجهود الأستاذين الفاضلين يحيى إدريس وهاشم الرجب اللذان أصبحا موظفين في دائرة الفنون الموسيقية التابعة إلى وزارة الثقافة والتي استطاعت من خلال الجهود المتميزة والمتابعة المستمرة من قبل الأستاذ حسن الشكرجي من أن تحقق قفزة نوعية في أدائها وتحقيق ما لا يمكن تحقيقه للفنانين إيمانا منها بمكانة الفن والفنانين وحرصا منها على الحفاظ على كل ما هو تراث عراقي أصيل".
تراجع
ويتحدث أيسر الغريب (عازف ومطرب مربعات بغدادية) عن قرب انحسار واندثار هذا اللون الغنائي والشعبي في الساحة الغنائية العراقية، لكنه ومن معه من الشباب؛ لا يزالون مصرين وملتزمين بممارسته حفاظا على التراث والفلكلور العراقي بشكل عام والبغدادي بشكل خاص. ويضيف الغريب بالقول: " أن المربع البغدادي فن عراقي ولون من ألوان الغناء الشعبي التراثي البغدادي القديم الذي كان يغنى باللهجة العامية، ونشأ في بعض المحلات والمناطق الشعبية القديمة، ومن أشهر وأبرز مطربيه: محمد الحداد، ومحمود شكري، وشهاب ابن الحجية، وإبراهيم كرادي، ورشيد القندرچي، ومحمد العاشق، وفاضل وفالح النعيمي، وصالح العزاوي، وقاسم الجنابي، وحسين القيسي، وكريم القيسي، وعلي شاكر، وفؤاد البغدادي وإبراهيم أبو عگرب، وغيرهم".
رواد
يعتبر الحاج صالح العزاوي (1933 - 2016) من المطربين الأوائل للمربع البغدادي وكان من الأصوات القوية والجهورية التي جملت المربع البغدادي وهو من سكنة منطقة الفضل. واشتهر بقراءة المربع البغدادي والحسينيات، وكان يعمل بصفة مدير في أمانة بغداد، ومدرب لفريق العزة لكرة القدم، ومن مربعاته الشهيرة: (هلا برمضان وأيامة وليالية..).
وكذلك برز مطرب المربعات البغدادية قاسم الجنابي (1945 - 2005) وهو من أهالي أبو سيفين، منطقة طاطران، حيث يعد من أشهر قراء المربع البغدادي وأجودهم بالقراءة، صاحب الأناقة البغدادية والصوت الجهوري. حيث تميز الراحل بأداء مقام الدشت. وكان يعمل بصفه سائق في وزارة التخطيط ويشتغل "أوتچي"، كما عرف بقراءته للعزاء الحسيني في أيام محرم الحرام في موكب شباب ديالى، وله عدة مربعات جميلة لا تحصى، أشهرها: (الليلة حنته وباچر يزفونه..).
كما وظهر أيضا المطرب محمد الشعبي الذي يعد علما من أعلام المربع البغدادي (1946 - 1997) وهو من مدينة الشعب وسكن في منطقة الفضل، وفي أواخر حياته في حي التربية. كان يعمل إلى جانب مهنة الغناء مفوضا في مصرف الرشيد. وتميز الراحل بروحه البغدادية الكوميدية والجميلة والجذابة في أداء المربع، ويمتلك إحساسا مرهفا في الغناء، امتلأت مكتبة الإذاعة بالكثير من أغانيه وسطع نجمه في أول مشاركة في الإذاعة بمربعه الشهير: (هالطير كرخي للرصافة شجابه..).