هادي ماهود.. المدوّنة المرئيَّة للسيرة الشعريَّة

ثقافة 2019/06/02
...

   د.جواد الزيدي
 
 
يدخل هادي ماهود الى منطقة الرسم من خلال حركية الفكر ونوازعه  القائمة على التجريب الإسلوبي وتقنيات الاظهار المتبدلة على الدوام ، فضلا عن جوهر الموضوعات التي يريد التعبير عنها انطلاقا من مادة الواقع الحية التي تمارس حضورها اليومي في مفردات حياتنا بأشكال وتجليات مختلفة . هذا التفكير يصلح لأن يكون عتبات جديدة يمكن الوثوب منها الى مناطق أكثر عمقا في التداول والنبش في المسكوت عنه على صعيد اجناسية الرسم من اجل اغناء السطح التصويري وعدم الوقوف عند لحظة واحدة في التعبير عن الراهن ومتطلبات المرحلة التي تفرضها سلطة الخارج بما يعج به من معطيات يمكن تلقفها من قبل الفنان . ولهذا فأن الخيار الأخير لإشتغالاته كان مختلفا عما تقصده وأنجزه من قبل وهجرانه مفرداته وموضوعاته الأثيرة مثل السمكة والقطة ، الا أنها تنتمي للواقعة الشعبية وفضاء الحياة الأكبر ومستوعباته المتعددة ، إذ اقدم بجرأة كبيرة على ولوج مضمار جديد لم يكن مأهولا سابقا في حركة الرسم بما توصل اليه من خلال المزاوجة بين اللون والقصيدة ، وهذا العنوان يعد عتبة أولى لتفسير المعطى الانجازي له ، اذ عمد أولا الى خيار اللعب الحر على السطح متخطيا قواعد وأعراف الرسم الممثلة في تشييد السطح التصويري لمجمل خطابه الذي تشترك فيه الفكرة وتتقدم على التقانة المطلوبة ، ولكنه في الوقت نفسه يطرح أسئلته الجمالية والوجودية من خلال استجلاب اسماء عبارة عن وجوه أو (علامات ايقونية) تمتلك رصيدها الكبير في الذاكرة الجمعية لتثوير الفكرة ، بخلاف المقاربات السابقة التي تحتفي بالصورة الذهنية التي يمثلها النص اللغوي على صعيد النص الشعري أة السيرة .
 فقد اختار اسماء شعرية لها أثرها الريادي في الثقافة الانسانية الحديثة بعيدا عن سلطة الثقافة المتعينة والانفتاح بها الى الكونية والأثر التداولي الذي يغذي الشكل بتدفق جمالي ،فأن موضوعاته وأن كانت مأخوذة من الشعر أو متعالقة معه الى حد كبير فضلا عن الصورة الفوتوغرافية بوصفها علامة تعيينية ، ألا أنه يرفدها باتجاهين يغنيان التبئير الفلسفي للصورة المرسومة ويشكلان مرجعية مهمة لخطاب التلقي ، وهما المسافة الجمالية المتحققة أزاء فعل الانزياح الذي وضعه الرسام على الصورة وترجمة طبيعة الشخصية من خلال استقراء السيرة الشخصية وتفكيكها الى مجموعة حوادث اجتماعية وثقافية بما يشكل تأريخ الشخصية الشعري والثوابت التي تعكسها كل شخصية في ضوء علاقتها بالمعطى الواقعي ، وثانيهما رصد بعض الاضاءات الشعرية لكل من هذه الشخصيات وجعلها معادلا موضوعيا يؤكد ذلك الحضور بما يعكسه حفظ الجميع لقصائد (الجواهري والسياب والماغوط ولوركا ودرويش ونيرودا) وغيرهم الكثير . ولذلك جاءت المقطوعات التي خطها بعفوية على مساحات البياض في اللوحة المرسومة أو على ايماءات الوجه وبقلم كتابة ما يعني مصداق التعبير واستمكان وسائل مباشرة تواصل حضورها في ذهن المتلقي ، بوصفها علامة تم تكييفها أيضا داخل الصورة المرسومة وذلك أضاف معنى آخر على جمالية الخطاب وتوصلاته .
أن المعالجات اللونية تؤسس مناخها الخاص في ضوء الدلالة ، ولهذا منح ماهود كل لوحة لونها الخاص بما ينسجم وطبيعة الشخصية وتراكماتها النفسية والمقترحات الاسلوبية لطرائق البث الشعري التي تختلفمن فضاء لآخر ، فكان التعبير في الحركة والايماءة واللون مأخوذا من سيرة الشخصية ومفارقاتها . ولهذا استطاع أن يجد اتساقا بين النصوص الشعرية والتأريخ الشخصي والخطاب المرئي الذي استمكن هذا التأريخ الطويل من المماحكات والمشاكسات على صعيد الشعر والحياة . ومن خلال هذا المعرض استطاع اختزال الزمن وتكثيف حوادث لأكثر من قرن كامل وزجها في قاعة  تحتوي مجموعة من الأعمال الفنية . وهذا البحث الجمالي يتقصد الغائب ويسجله حضورا أكيدا سرمديا على مستوى المرئي الذي يحفر أثره في الذاكرةوالتجربة الثقافية ، وصياغة قراءة من نوع آخر لم يتجاوز البحث فيها العلوم اللسانية ، ولكنه هذه المرة اجترح خطابا آخرا من خلال الصورة الاشهارية التي اعلى من شأنها خطاب ما بعد الحداثة وتوظيفها في الفن . ولعل محاولة ماهود هذه هو تقصد الامساك باللحظة الهاربة أو الهامشية في الحياة وتحويلها الى المركز والتعامل معها على هذا الأساس على مستوى الابتعاد عن استخدامات اللون التقليدية والموضوع التعبيري الذي يوظف فيه الصورة.