ذو الفقار يوسف
بينما يغادر جبار المنزل متوجها نحو عمله، ينقشع الضباب عن ذكريات والده الحاج لعيبي، فالمنزل يتملكه هدوء مزعج، مما يتيح له الغوص بأيام
قد مضى عليها السنين، يتذكر الحاج كل ما مر به منذ أن تزوج حتى هذه اللحظة، لا عمل لديه ليشغله عن هذه الممارسات الحسية التي تروق له في بادئ الامر، يرشق حدقاته في السقف وهو يستلقي على سريره، يسمع أصوات من كانوا في أحد الأيام أصل الصخب في المنزل، ابناءه بناته أحفاده وزوجته، حتى أنه يتذكر تفاصيل المحادثات، التي كانت تزعجه في أغلب الأحيان تلك التي يتحدث فيها أكثر من شخص في ان واحد، حينما كان يتمنى لعيبي أن يجد بعضًا من الهدوء في تلك الاوقات، نادم.. كانت كل خلاياه تردد هذه المفردة الان، كلمة واحدة اشعلها هذا الهدوء الذي يحكم منزله الان كالفرعون، يقفز من فراشه لعله يجد السكينة التي تبعد عنه هذه الاحاسيس، لكن، غرف المنزل، زواياه، جدرانها، سلالم البيت وسقفه، كل شيء يذكره بما مضى، يخرج ليجلس امام حديقة المنزل فيخيل له حفيده الذي كان يقطع الزهور وهو بدوره يصيح به ألا تفعل ذلك، يصعد الى سطح المنزل فتعيده خطواته على السلم الى حفيدة له تزعجه بصوت صندالها، وهي تقفز من درجة الى أخرى، لا مفر للحاج لعيبي فالشتاء بالنسبة له أصعب
المواسم.
والنسيان قد أخذ اجازة منذ وصول هذا الموسم، يحاول أن يبل ريقه بالماء، فتذكره الثلاجة بزوجته الراحلة، وهي تعد له الاطعمة التي يحبها، المرآة هي الأخرى تحاول قتله كلما نظر فيها، فها هي ابنته وحبيبته تمسكها له وهو يقطف الشعر الزائد من حاجبيه، كل الأشياء موجودة ولا موجودة بالوقت نفسه،
فالزمن عند لعيبي ثقيل جدا، دخل الصالة فاسعده ما رأه في شتاء قاسي لمشاعره، هناك شيء قد تبقى لي منهم، اذ توسطت مدفأة علاء الدين الصالة كما في السابق، جلس لعيبي بقربها، حينها لم تكن تعمل، دفء الذكريات ما جعلها كذلك، تذكر لعيبي كل شيء، فاحتضنها، وهو يبكي.