عمار عبد الخالق
صار التغييب القسري أحد الأساليب التي مارسها النظام العراقي السابق قبل 2003 على نطاق واسع لقمع معارضيه واخضاعهم. الأسلوب نفسه عاد إلى الواجهة بعد استيلاء تنظيم داعش الإرهابي على مساحات شاسعة من مناطق غرب وشمال العراق في حزيران 2014، وانطلاق العمليات العسكرية التي قادتها القوات الأمنية العراقية بدعم قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، لطرد مسلحي التنظيم من المدن والبلدات، التي سيطروا عليها والتي استمرت لحوالي أربع سنوات.
تقرير لجنة الأمم المتحدة المعنية بمتابعة حالات الإخفاء القسري في تقريرها الصادر في نيسان 2023، أشار إلى أن عدد المغيبين في العراق خلال الخمسة العقود الماضية يقدر بمليونٍ ومئتين وخمسين، بما فيهم المغيبون قسريا نتيجة للحروب والصراعات السياسية.
حقوق
مسؤولون عراقيون ومنظمات حقوقية دولية ومحلية أشروا إلى الارتباط الوثيق بين المقابر الجماعية وبين ضحايا التغييب القسري.
المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق ومؤسسة الشهداء والمفقودين وشهادات ذوي المغيبين قسريا من ضحايا النظام السابق، أكدوا أن فتح المقابر الجماعية وتحديد هوية ضحاياها أسهما بالكشف عن مصير عشرات الآلاف من المغيبين، بما فيهم المغيبون قسريا قبل عام 2003 وبعده.
المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق تقول إن "فتح المقابر الجماعية وانتشال ضحاياها وتحديد هويتهم سيجيب عن الكثير من الأسئلة في ما يتعلق بالمغيبين بما فيهم المغيبون قسريا،" مستدركة بحديثها، ان "استقرار الوضع الأمني يسهل عملنا، فكلما استقر الوضع الأمني في هذه المحافظة أو تلك، صارت إمكانية وصولنا إلى مواقع المقابر الجماعية أو تلك التي نشك باحتوائها على مقابر جماعية أكبر".
المغيبون والحكومة
مسؤول في المفوضية فضل عدم ذكر اسمه كونه غير مخول بالحديث مع الصحفيين، يقول: "بعد استعادة القوات العراقية السيطرة على جميع المناطق التي اجتاحها تنظيم داعش الإرهابي، صارت كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية تعمل باتجاه واحد، وهذا ساعدنا في توسيع رقعة البحث والتحقق من صحة البلاغات الواردة إلينا والمتعلقة بالمغيبين والمغيبين قسريا والمقابر الجماعية".
ان إنهاء ملف المقابر الجماعية له الأولوية حاليا وخصوصا في نينوى وسنجار والأنبار، لأنه سيسهم في إنهاء جزء كبير من ملف المغيبين". دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية التابعة لمؤسسة الشهداء في العراق، تقول إنها استدلت على 215 موقعا لمقابر جماعية في عموم العراق حتى الآن، 95 منها مواقع لمقابر جماعية تضم رفات عشرات الآلاف من ضحايا النظام السابق، اما البقية فتضم مقابر جماعية لضحايا قتلوا ودفنوا بعد 2003.
حلول
"المقابر الجماعية هي وسيلة لإخفاء جريمة قد تكون جريمة ضد الإنسانية أو جريمة إبادة جماعية"، يقول ضياء كريم الساعدي مدير عام دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية، ويكمل أن "فتح أي مقبرة جماعية أو فردية وانتشال الرفات المدفونة فيها وتحديد هوية صاحبها، هي كشف عن حالة تغييب". مبينا "نحن نسهم في إنهاء معاناة الأهالي بتحديد مصير المغيبين، بما فيهم المغيبون قسريا".
احتل العراق مرتبة متقدمة في قائمة البلدان، التي سجلت أكبر عدد من المفقودين والمقابر الجماعية المكتشفة خلال العقود الخمسة الأخيرة، السلطات العراقية تعثر على مواقع تضم مقابرَ جماعية بـ "الصدفة" خلال عمليات البناء والإعمار أو بسبب السيول التي تجرف الطبقات العليا للتربة.
الساعدي يقول، إنهم حددوا 95 موقعا يضم مقابر جماعية، لضحايا أعدموا ميدانيا من قبل النظام السابق بإطلاق الرصاص، أو دفنوا أحياء بما فيهم أسر بكاملها. وان ٧٩ موقعا فقط تم فتحه حتى الآن ليعثروا فيها على 158 مقبرة جماعية ضمت الآلاف من الرفات، أما عدد المواقع المكتشفة والمسجلة لمقابر جماعية لضحايا قتلوا ودفنوا بعد 2003 فيصل إلى 120 موقعا -بحسب الساعدي - يحتوي كل واحد منها على عدة مقابر ويضم آلاف الرفات، لم يفتح من هذه المواقع غير 51 موقعا وجد أنها تضم 130 قبرا جماعيا، بحسب الساعدي.
خمس محافظات منكوبة
محققو دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية يقولون، إن التوزيع الجغرافي للمقابر المكتشفة يشير بوضوح إلى أن ضحايا المقابر الجماعية الذين قتلوا ودفنوا خلال الفترة الممتدة من 1979 - 1991 تركزت في المثلث الصحراوي الممتد بين محافظات المثنى والنجف والديوانية، أما المقابر الجماعية التي تضم رفات ضحايا قتلوا ودفنوا بعد الانتفاضة الشعبانية في آذار 1991 فتركزت في المحافظات المنتفضة.
المقابر الجماعية التي استدلت عليها الدائرة والتي تضم رفات ضحايا قتلوا بعد 2003 تنتشر في المحافظات الخمسة التي اجتاحها تنظيم داعش الإرهابي، وهي الموصل وصلاح الدين والأنبار وديالى وأطراف بغداد.
الساعدي يقول، إن "معلوماتهم تشير أيضا إلى وجود مقابر جماعية في الفلوجة والكرمة وهيت والقائم والرطبة، وجميعها مثبتة كمواقع مقابر جماعية لكنها لم تفتح بعد".
اما الحكومة العراقية تنفي تسجيلها لأي حالات غياب قسري، مشيرة إلى أن ما يردها من بلاغات هو لمفقودين لا ينطبق عليهم توصيف التغييب القسري، والذي يشترط حدوث حالة التغييب بإذن وموافقة ودعم الدولة.
مسؤول حكومي رفيع معني بمتابعة ملف المغيبين قسريا اشترط عدم ذكر اسمه قال: إن "عدد الادعاءات الواردة إليهم عن حالات تغييب قسري وصلت إلى 7500 حالة حتى نهاية عام 2021، وان تحقيقاتهم لم تثبت أن أياً منها كانت تغييبا قسريا.
المسؤول الحكومي أكد أن فتح المقابر الجماعية وإنهاء هذا الملف سيسهمان "إلى حد كبير" بإثبات صحة الادعاءات المتعلقة بوجود مغيبين قسريين في العراق أو نفيها.
فجوةٌ كبيرة
عملية فتح المقابر وتحديد هوية الرفات هو جهد مشترك بين دائرتي شؤون وحماية المقابر الجماعية والطب العدلي، إلا أنها تحتاج أيضا إلى تعاون أهالي الضحايا.
يقول مسؤولون عراقيون، إن الطاقة الاستيعابية المحدودة للتخزين في دائرة الطب العدلي وضعف الإمكانيات التقنية المتوفرة، وغياب العينات اللازمة لإجراء عملية المقارنة بين ذوي الضحايا والرفات المنتشلة، كلها عوامل تعيق العمل وتبطئ وتيرته، ما يطيل أمد معاناة ذوي الضحايا.
وتقدر بعض المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية عدد المفقودين والمغيبين في العراق منذ 2003 وحتى اليوم بحوالي 250 ألفا، إلا أن المتوفر من المعلومات لدى السلطات العراقية المعنية عن هؤلاء المفقودين والمغيبين لا يقترب حتى من نصف هذا الرقم.
يقول الساعدي: إن "هناك فجوة كبيرة بين عدد البلاغات المسجلة لدينا عن المفقودين والمغيبين وبين عدد المقابر الجماعية المكتشفة والمفتوحة، الفجوة كبيرة جدا ما يشير إلى وجود مقابر جماعية غير مكتشفة حتى الآن".
ويكمل "من الصعب جدا تحديد إلى أي مدى سيسهم إنهاء ملف المقابر الجماعية في إنهاء ملف المغيبين، إن لم نعثر على جميع المقابر ونفتحها ونحدد هوية الرفات المنتشلة منها، تظل النسبة موضع نقاش".