تحرير الكتب بين المؤلفين والناشرين

ثقافة 2019/06/09
...

عبدالزهرة زكي
 
 
ربما من الصحيح أن الصلة بين الكتّاب، وأنا واحد منهم، والناشرين هي صلة في كثير من حالاتها ليست على ما يرام.
ولهذه الطبيعة عوامل موضوعية كثيرة يتحملها الناشرون والكتّاب معاً، كما تتحملها الظروف التي يعمل فيها الطرفان؛ غياب التقاليد، والقوانين، وغياب التراكم في التجربة، فقدان الفهم الدقيق لمفهوم السوق، سوق الكتب، عدم تفهم الطبيعة التجارية لعمل الناشر في مقابل عدم تفهم أن الكاتب شخص يجب أن يعيش من عمله ككاتب.
مشكلات كثيرة لا تجعل هذه الصلة ما يرام، لكن من المسؤولية، من الفائدة لنا جميعا، ناشرين وكتّاباً وقراءً، العمل بشكل مشترك، بتعاون، من أجل ترسيخ هذا النشوء الجديد لدور نشر في العراق.
لدينا دور نشر راسخة، وأخرى هي دور واعدة يمكن توقع تطورها وتقدمها، ولدينا أيضا مجرد دكاكين ومكاتب تأخذ صفة الناشر.
لا ينبغي التطير حتى من الأبعد عن صفة الناشر الفعلي.
في الأخير نحن نحتاج إلى كل هؤلاء.
في العالم حتى المتقدم والمتطور بالتقاليد والمؤسسات يمكن مصادفة ما يماثل كل هذه الأنواع التي ذكرت، لكن هنالك تقاليد 
وقوانين. 
وبالتأكيد فإن معظم الناشرين يطمحون إلى أن تأسيس دور نشر راسخة وحقيقية. 
لكن نحن ننجح بتحقيق ما نطمح إليه وذلك بتوفر الاستعداد الشخصي للنجاح، ثم توفر الظروف الموضوعية المساعدة على النجاح، من هذه الظروف تنمية التقاليد والتوفّر على قوانين ضابطة للعمل ومشجعة له، وتوفر سوق حقيقية للكتاب.
من مصلحة المؤلفين تعضيد النشوء الجديد لدور النشر.
حالياً وفي معظم حالات النشر لدينا، يزهد العاملون كناشرين بدورهم كناشرين ويكتفون بدور الوسيط بين المطبعة والمؤلف.
هذا دور من الممكن أن يقوم به المؤلف نفسه، ومن الممكن أن تنهض به المطابع نفسها.
الناشر، في أنضج مهمة له، هو شريك أساس في كتاب المؤلف الذي ينشره.
ما لم يؤمن فعلاً الناشر بهذا الدور، ما لم يكن على إيمان حقيقي بأن الكتاب الصادر عنه هو كتابه، هو هويته في سوق الكتب والمجتمع، ما لم يعمل بإيمان حقيقي بهذا الدور لن يكون 
ناشراً.
هو سيتضرر بغياب هذا الإيمان، والمؤلف يتضرر، ويتضرر القراء أيضاً.
***
بموجب هذا الاستهلال السريع ينبغي أن نفهم طبيعة الصلة ما بين المؤلفين والناشرين.
سأركز هنا على مسألة تحرير الكتب، مخطوطات المؤلفين التي يقدمونها للناشرين، وهي المهمة التي دُعيت من أجلها لهذه المحاضرة.
التصوّر السائد بيننا أن التحرير عمل يتدخل فيه الناشر بحرية تامة في تغيير أو تعديل أو تطوير الكتاب المخطوط المقدّم له.
وهذا تصور يفترض (نقصاً) في مهمة التأليف تتوجب (معالجته) من قبل الناشر، من قبل موظفين في دار النشر تقتصر مهمتهم على (التحرير).
إنه تصوّر صحيح إنما إلى حد ما يتباين من كتاب إلى آخر، ومن مؤلف إلى سواه.
يكون هذا الـ (حدّ ما) كبيراً في بعض الكتب ذات الطبيعة العلمية والتخصصية، خصوصاً تلك التي ينجزها متخصصون ليست لهم تجارب كافية بالتأليف، بالصياغات، وبأساليب الكتابة التي تجعل من الكتاب موضوعاً متاحاً للقراءة بمدى أوسع.
فيما تتضاءل مساحة التحرير ومهمة المحرر حين يتعامل مع كتب لمؤلفين محترفين، وبالأخص في مجالات الإبداع الأدبي؛ كالرواية والقصة والنقد.
هذه كتب غالباً ما تكون مكتملة وجاهزة للنشر، باستثناء بعض أخطاء الطباعة واللغة والإملاء، وأحياناً بناء الجمل والفقرات، وربما تصويب بعض المعلومات التي يسهو عنها المؤلف في غمرة الكتابة.
هذه أخطاء متوقعة بقدر ما تكون نادرة، ومسؤولية المحرر الوقوف عندها ومعالجتها، إنما باتصال مباشر مع المؤلف للتوصل إلى تفاهم مشترك بشأنها.
وحديثي يتركز طبعا عن كتب الأدب الأنضج وليس عن كتب هواة وطامحين غير مؤهلين.
يتطلب هذا المستوى من التحرير محررين متخصصين بحقول مختلفة؛ محرر كتاب علمي بتخصص ما هو غير المحرر المهتم بتخصص آخر، وهذان هما غير المحرر المعني بمراجعة مخطوطات التأليف الأدبي.
يجب التوضيح أن كل عمل تحريري مهما كان مستواه هو تفاهم مشترك ما بين المؤلف والمحرر.
لا ينبغي إجراء اي تعديل أو تغيير من قبل المحرر في الخارج من علاقة (التفاهم) ما بينه والمؤلف.
 
***
في أثناء التهيؤ لهذه المحاضرة كنت أراجع المواقع الإلكترونية لعدد من دور النشر الإنكليزية المختلفة، ومعها عدد آخر من شركات خاصة مهمتها التحرير فقط وليس النشر.
هذه الأخيرة هي مكاتب وشركات يتشكل زبائنها في الغالب من الكتاب الجدد وغير المتخصصين بالتأليف بحقل كتابي معين.
وفي مثل هذه الشركات كما يؤكد ذلك إعلان أكثر من شكرة فيها أن مسؤوليتهم التحريرية تأخذ مستويات مختلفة تبدأ من (التحرير البسيط) المعني بأخطاء اللغة والإملاء والطباعة، وتمتد إلى (التحرير الثقيل) الذي يوافق معه الكاتب على (المراجعات الشاملة لمخطوطه، لتحسين قاموسه، وبناء الجملة، والتدفق، وانسياب ايقاع الكتابة، والانتقالات) ثم (التحرير التنموي) الذي يقترح أو يضيف بموجبه المحرر ما (يعزز بنية ومضمون النص)، ناهيك عن شكل آخر من (التحرير) يندفع نحو (إعادة الكتابة) و(تطوير وإغناء المخطوط بالأفكار والمصادر والمعلومات)، وهي شكل  قد يكون بعيداً عن مهمة التحرير وأقرب إلى (الكتابة بالنيابة)، وهو ما تمكن مصادفته في كتب المشاهير من نجوم المجتمع غير المعنيين بالتأليف والكتابة.
 
***
لا أتوقع حتى الآن أن دار نشر، عراقية ولا حتى عربية، تهتم بتحرير الكتاب، ربما تتوفر بعض الدور على مصحح لغوي، فيما الغالبية تدفع بالكتاب كما يأتيها مخطوطاً بنسخة وورد، وهذا خلل مهني فاضح يضر بالناشر وقبله القارئ كما يضر المؤلف الذي يتحمل جانباً كبيراً من سوء إعداده نسخة النشر حين يدرك أنه يتعامل مع دور نشر لا تراعي هذه التقاليد.
التحرير مهمة تخصصية لا ينجح فيها المرء لمجرد إتقانه اللغة، إنها تتطلب مهارات تعبيرية وحسّاً مهنياً يلتقط المواضع التي تتطلب التدخل والتحرير.
الناشر لا ينجح بمجرد توجيه عناوين مثيرة وجيدة لسوق الكتب، تنجح مهمته بإتقان إخراج الكتاب الجيد أولاً وبمتابعة تسويقه ثانياً، وإلا فالنشر بلا سياسة تسويقية يستحيل إلى دور وسيط طباعي.
***
نظرة المؤلف من موقع متعال إلى مهمة المحرر الكفوء هي نظرة يتضرر منها المؤلف نفسه قبل سواه.
في العالم جوائز لأفضل المحررين، وفي العالم يتوقع الكاتب المحترف من محرري دار النشر التي يتعامل معها دوراً مهماً في (تنظيف) مخطوط الكتاب مما يعلق به من أخطاء الكتابة. 
ومن فضائل المحررين رفعهم العناء عن المؤلف في مرحلة طباعة الكتاب ومتابعته وتدقيقه، وهذا فضل كبير.
واحدة من أمهر المحررين هي الكاتبة الروائية توني موريسون (فازت بجائزة نوبل في الأدب عام 1993 عن مُجمل أعمالها).
لقد عملت في راندوم هاوس.
 
***
في ثقافتنا العربية، ومع غياب دور المحرر في دور النشر، لا نعدم أن نصادف عملا تحريريا في بعض المنشورات، خصوصا في الترجمات التي تجري مراجعتها.
المراجعة هي شكل من اشكال التحرير، وكذلك تحقيق كتب التراث، بعض عمل المحقق لا يبتعد عن عمل المحرر، فيما قديما كان الوراقون وناسخو الكتب يضعون هوامش وحواشي وتعليقات هي بمعظمها شكل أولي من اشكال التحرير.
قبل هؤلاء كان رواة الأحاديث والقصص والحكايا والوقائع، وحتى الشعر، هم ايضا يمارسون أحيانا أشكالا من (التحرير الشفوي) وذلك كلما تدخلوا ونقلوا الرواية بـ (تعديل) طفيف أو كبير.
 
ـــــــــــــــــــــــ
• جوانب من المحاضرة التي ألقيت الأسبوع الماضي في قاعة (معنى) بالمنصور بدعوة من اتحاد الناشرين، بحضور جمهرة منهم ومن الكتّاب، وبتقديم الأستاذ صفاء ذياب.