يوم في حياة عابد سلامة

ثقافة 2024/05/29
...

  ترجمة وتقديم: 

كامل عويد العامري

{نحن لا نرى بصمتنا فيما يحدث، ولذا نسمي بعض الأحداث حوادث مؤسفة، بينما هي نتاج حتمي لتخطيطاتنا، ولأننا لا نريد أن نغير من حالتنا الذهنية نسمي أحداثاً أخرى ضرورات}.. ستانلي كافيل.

حادث حافلة مدرسية يودي بحياة سبعة أشخاص. كتاب {يوم في حياة عابد سلامة: تشريح مأساة في القدس} هو تحقيق في شكل رواية. يشرح المؤلف، الصحفي الأمريكي ناثان ثرال سلسلة القرارات التي جعلت هذا الرعب ممكنا. تقشعر لها الأبدان. يروي الكاتب الأحداث دقيقة بدقيقة. في منطقة منسية من القدس الشرقية، مأهولة بالفلسطينيين وخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. لماذا اختار أولياء الأمور هذه المدرسة؟ لماذا سارت الحافلة في تحويلات كبيرة؟ لماذا الطريق في هذه الحالة المزرية؟ لماذا يستغرق وصول المساعدة ثلاثين دقيقة؟ 

ويتحدث عن ألوان بطاقات الهوية، والتعقيدات التي نشأت، على نحو متناقض، عن اتفاقيات أوسلو للسلام، والمعارك بين الفصائل السياسية.. هذه هي قصة مخيمات اللاجئين على الجانب الخطأ من الجدار الذي أقيم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. 

في هذه الرواية غير الخيالية، كل شيء حقيقي تمامًا. حتى الأسماء حقيقية باستثناء أربعة احتراما لخصوصيتها.. ففي خضم الحرب في غزة، يقدم سردا تنويريا للظروف المعيشية في الضفة الغربية المحتلة. ويفصّل الحياة اليومية لكل شخصية. وفضلا عن ذلك، يتابع معاناة عابد والد ميلاد، ومعاناة عائلات أخرى. يُحكم على سائق الشاحنة بالسجن ثلاثين شهرًا. ولكن على حد تعبير الكاتب:" على الرغم من تسمية الأطراف المذنبة إلا أن لا أحد يتحدث عن الأسباب الحقيقية لهذه المأساة.


الترجمة الكاملة لمفتتح الرواية

في الليلة التي سبقت الحادث، لم يتمكن مِيلاد سلامة من كبح حماسه بشأن الرحلة المدرسية المقررة في اليوم التالي. "بابا"، كان يقول، وهو يسحب كم والده عابد، "أريد شراء بعض الطعام لنزهة الغد." كانا في منزل أصهار عابد، الذين كانوا يمتلكون متجرًا صغيرًا على بعد خطوات قليلة من هناك. 

سلك عابد مع ابنه البالغ من العمر خمس سنوات أحد الأزقة الضيقة في حي ضاحية السلام في عناتا، حيث كانا يعيشان.

عندما وصلا إلى شارع خالٍ من الأرصفة، شقا طريقهما بين السيارات التي كانت متوقفة هناك وتلك التي كانت محركاتها تعمل، عالقة في ازدحام مروري. 

كانت مصفوفة من الكابلات والأسلاك الكهربائية والزينات المتلألئة تتدلى فوق رأسيهما، وكان كل شيء يبدو وكأنه مكوم تحت أبراج سكنية شاهقة، أربعة وخمسة وحتى ستة أضعاف ارتفاع حاجز الفصل، ذلك الجدار الخرساني الذي يبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار والذي يحيط بعناتا. تذكر عبد وقتًا ليس ببعيد عندما كانت ضاحية السلام حيًا ريفيًا هادئًا جدًا، وعندما كان لا يزال من الممكن توسيع قطعة أرضه، بدلاً من تكدس الناس فوق بعضهم البعض.

بمجرد وصولهما إلى المتجر الصغير، اشترى عابد لمِيلاد زجاجة تابوزينا Tapuzina، وعصير برتقال، وعبوة برينجلز Pringles وبيضة Kinder بالشوكولاتة، مفاجأته المفضلة.

في الصباح الباكر من اليوم التالي، ساعدت هيفاء زوجة عابد، النحيلة والرشيقة مثل ميلاد، الطفل الصغير في ارتداء زيه المدرسي: قميص بياقة بيضاء، وكنزة رمادية تحمل شعار مدرسة نور الهدى الابتدائية الخاصة، وبنطال رمادي كان عليه أن يبقيه مطويا بسبب صغر حجمه. كان آدم شقيق ميلاد البالغ من العمر تسع سنوات قد نزل إلى الطابق السفلي.

كانت شاحنة مدرسية بيضاء، متوقفة في الشارع، تنفخ في بوقها. سارع ميلاد إلى إنهاء فطوره المعتاد من زيت الزيتون والزعتر واللبنة، ومسح صحنه بقطعة من الخبز. وبابتسامة عريضة على وجهه، جمع غداءه ووجبته الخفيفة المفاجئة قبل أن يقبل والدته ليودعها ويخرج مسرعًا من الشقة. كان عابد لا يزال في السرير في ذلك الوقت.

عندما استيقظ من نومه، كان الجو كئيبا في الخارج وينهمر المطر بغزارة؛ وكان هبوب الرياح قوية لدرجة أنه كان يرى الناس في الشارع يكافحون من أجل التحرك إلى الأمام. كانت هيفاء تحدق من النافذة وتبدو عليها علامات الأسى:" الطقس سيئ للغاية.

"لماذا أنتِ قلقة جدا ؟ "، قال لها وهو يلمس كتفها. 

” لا أعرف، إنه مجرد شعور سيئ، هذا كل ما في الأمر. "

كان ذلك يوم عطلة بالنسبة لعابد، الذي كان يعمل في شركة بيزك، مشغلة الهاتف الإسرائيلي. ذهب مع ابن عمه حلمي بالسيارة لشراء اللحوم من صديقه عاطف الذي يملك محل جزارة في ضاحية السلام. وعلى غير العادة لم يكن عاطف هناك. طلب عابد من أحد العاملين التأكد من أن كل شيء كان على ما يرام.

عاش عاطف في جزء آخر من القدس، كفر عقاب، وهي منطقة حضرية مكتظة بالسكان مكونة من مجمعات سكنية كبيرة مبنية بطريقة عشوائية من دون أي تخطيط حضري، وهي منطقة معزولة عن بقية المدينة مثل ضاحية السلام، حيث فصلت عن بقية المدينة بنقطة التفتيش والجدار. ولكي يتجنب عاطف الاختناقات المرورية التقليدية والانتظار عند نقطة التفتيش، الذي قد يستمر لساعات، سلك طرقاً فرعية معقدة للوصول إلى عمله.

وأوضح عاطف أنه علق في ازدحام مروري كبير. يبدو أن تصادمًا وقع في مكان أبعد من ذلك، بين نقطتي تفتيش، إحداهما في مخيم قلنديا للاجئين والأخرى في قرية جبع. بعد ذلك بقليل، تلقى عابد مكالمة من ابن أخيه. "هل كان ميلاد في نزهة جماعية اليوم؟

لقد وقع للتو حادث لحافلة مدرسية بالقرب من جبع."

شعر عابد بالغثيان. فغادر هو وحلمي محل الجزارة على الفور وركبا هو وابن عمه سيارة ابن عمه الجيب الفضية. انطلقا إلى أسفل التل، وعلقا في زحمة المرور الصباحية، ومرّا على مراهقين بدأوا العمل في محلات بيع هياكل السيارات التي تحمل لافتات بالعبرية للزبائن اليهود، ومرّا أمام مدرسة ميلاد قبل أن يسلكا الطريق الذي يمر بمحاذاة الجدار. التفا حول المجمعات السكنية في مستوطنة نفيه يعقوب ثم صعدا التل شديد الانحدار نحو جفع بنيامين، وهي مستوطنة يهودية معروفة محلياً باسم آدم، وهو الاسم نفسه الذي يحمله شقيق ميلاد الأكبر.

عند مفترق الطرق عند مدخل مستوطنة آدم، كان الجنود يوقفون السيارات، وكان الحادث قد وقع في مكان قريب، مما تسبب في ازدحام مروري. قفز عابد من سيارة الجيب. افترض حلمي أن التصادم لم يكن خطيرًا جدًا، فلوح له بالتحية وعاد أدراجه..

*

في اليوم السابق فقط، كاد عابد أن يحرم ميلاد من أي فرصة للمشاركة في رحلة مع فصله. ليس بدافع أي تفكير وقائي، ولكن ببساطة بسبب الإهمال.

كان عابد في أريحا مع حلمي وكانا في السهل المسطح والمترب في أدنى مدينة في العالم، حيث تقع على ارتفاع حوالي مائتين وخمسين مترًا تحت مستوى سطح البحر، عندما تلقى مكالمة من هيفاء تسأله ما إذا كان قد دفع المائة شيكل التي طلبتها المدرسة لرحلة مِيلاد المدرسية. 

في الواقع، كان قد نسي. لم ترغب هيفاء في أن يذهب مِيلاد في رحلة، لكنها رضخت، مدركة مدى رغبة ابنها في أن يكون مع زملائه الصغار. كان مِيلاد يتحدث عن الرحلة منذ أيام. في وقت مكالمة هيفاء، كان الطفل يتجول حول منزل والديه، ينتظر عودة والده بفارغ الصبر، متلهفًا لشراء بعض الطعام ليوم غد. 

والآن أصبح الوقت متأخرًا. إذا لم يمر عابد بالمدرسة لدفع المبلغ قبل وقت الإغلاق، فلن يُسمح لمِيلاد ركوب الحافلة في صباح اليوم التالي.

كان الوقت بعد منتصف الظهيرة، لكن الهواء كان باردًا والجو ملبدًا بالغيوم، وكانت العاصفة التي كان من المقرر أن تهب في اليوم التالي قد بدأت تتشكل. 

وكانت أوراق أشجار النخيل تتراقص من بعيد. أخبر عابد حلمي أنه يتعين عليهما الإسراع بالعودة إلى المنزل.

كان حلمي في أريحا لأسباب تجارية. لقد ورث مؤخرًا سبعين ألف دولار وكان يرغب في استثمارها في العقارات. 

لم يعد هناك الكثير مما يمكن شراؤه في عناتا، حيث تعيش عائلة سلامة.

كانت عناتا ذات يوم واحدة من أهم مدن الضفة الغربية، وهي شريط طويل يمتد شرقًا من جبال القدس المليئة بالأشجار إلى التلال الصفراء الباهتة وأودية ضواحي أريحا الصحراوية. 

لكن إسرائيل صادرت معظم الأراضي في هذه المنطقة أو جعلتها غير قابلة لوصول سكان عناتا، ولأشخاص مثل عابد وحلمي. 

كانت مساحة المدينة في السابق تبلغ واحد وثلاثين كيلومتراً مربعاً، أما الآن لم تعد تزيد عن ثلاثة كيلومترات مربعة. لكن دعنا نعود إلى أريحا.

بينما كانا يسارعان للوصول إلى مدرسة مِيلاد قبل وقت الإغلاق، سلك عابد وحلمي طريق الاتصالات الاسرائيلي الرئيس بين الشرق والغرب، الطريق السريع 1. 

تسلقا قمة الجبل، مروراً بثلاث مستوطنات يهودية تخضع لحراسة مشددة، مبنية على أراضي عناتا، وكذلك قرية خان الأحمر البدوية، التي تمتد على أراضٍ كانت مملوكة لجَدّ عابد. ثم سلكا طريق أبو جورج، وشاهدا بساتين الزيتون التي كانت مملوكة لعابد وإخوته والتي أصبحت الآن مملوكة للمستوطنين. 

واستمرا في القيادة على هذا الطريق، ثم مرا بالقرب من منطقة E1 المعروفة، حيث كانت إسرائيل تخطط في ذلك الوقت لبناء عدة آلاف من الوحدات السكنية الجديدة، والفنادق، ومنطقة صناعية. وأخيرًا، تسلقا التل الأخير، ومرّا بجانب مستوطنة عناثوث والقاعدة العسكرية المجاورة، والتي بنيت أيضًا على أرض كانت مملوكة لعائلة سلامة.

بمجرد وصولهما إلى عناتا، كان على عابد وحلمي عبور المدينة من جهة إلى أخرى لأن المدرسة كانت تقع في الطرف الآخر من البلدة بمحاذاة السور مباشرة. كان محيط المدرسة هادئًا، شبه فارغ. ركض عابد عبر البوابة المعدنية، واجتاز وهو لا يزال يجري العشب الاصطناعي، ودخل إلى قاعة المدخل، وأخبر السكرتيرة أنه يريد دفع المبلغ المطلوب لرحلة اليوم التالي.

فأجابت: "لقد فات الأوان. لقد أغلقنا".

صعد عابد السلالم أربعة أربعة فوجد المعلمة مفيدة التي يعرفها، في الطابق العلوي. وهذه اتصلت بالمديرة التي اتصلت بالسكرتيرة، ونزل عابد إلى الطابق السفلي ليدفع، وتنهد بارتياح. كان بوسع ميلاد الذهاب في رحلة.

*

كانت السماء تمطر عندما قفز عابد من سيارة حلمي ذات الدفع الرباعي عند مفترق الطرق عند مدخل مستعمرة آدم. كان يرتدي المعطف الأسود الطويل الذي أحضره معه تحسبًا للعاصفة القادمة. وكلما اقترب من موقع الحادث، ازداد قلقه. 

كان في البداية يمشي على قدميه، ويكاد الآن يركض حتى لمح سيارة جيب عسكرية خضراء تقترب. أوقفها وقال للجنود بالعبرية إنه يعتقد أن ابنه كان في الحافلة. طلب منهم أن يأخذوه إلى هناك. فرفضوا. 

فبدأ عابد يركض. في البداية لم يتمكن من رؤية الحافلة التي أخفتها عن ناظريه شاحنة نصف مقطورة ذات ثمانية عشر عجلة متوقفة على الطريق المكون من ثلاث مسارات. كان العشرات من الناس متجمعين هناك، بما في ذلك الآباء الذين تعرف عليهم، والذين هرعوا إلى مكان الحادث.

” سأل عابد: "أين الحافلة ؟" أين الأطفال؟

بعد ثوانٍ قليلة، رآها مقلوبة على جانب واحد: هيكل فارغ متفحم. لم يستطع عابد رؤية أي طفل أو معلّم ولا حتى سيارة إسعاف. لمح وسط الزحام ابن عمه الذي لم يكن يحبه كثيرًا، أمين. 

قبل سنوات، وقع بينهما شجار عنيف وانتهى الأمر بعابد في المستشفى. ويعمل أمين الآن في جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني الذي كان يعمل بالنيابة عن إسرائيل في قلب المراكز الحضرية في الضفة الغربية. وكان معروفًا بأنه أحد ضباطها الفاسدين الذين لا يترددون في ابتزاز الأموال.

" ماذا حدث" ؟ 

سأل عابد. 

أجاب أمين: "حادث مروع". "لقد أخرجوا الجثث المتفحمة من الحافلة ووضعوها على الأرض.

أدار عابد ظهره لأمين وابتعد بسرعة وقلبه يخفق في صدره. من سيقول مثل هذا الكلام لأب؟

عرف عابد الآن أن هناك وفيات. الآن كانت الصورة الرهيبة موجودة هناك، ومن المستحيل تجاهلها. شق عابد طريقه بين الحشود، وكلمات أمين تتردد في داخله.

كانت الشائعات المجنونة تدور حوله، وتنتقل من متفرج إلى آخر: لقد اصطحب الأطفال إلى مستشفى في الرام، على بعد دقيقتين من هنا؛ كانوا في رام، القاعدة العسكرية الإسرائيلية، عند مدخل الرام؛ كانوا في المركز الطبي في رام الله؛ لقد نقلوا من رام الله إلى مستشفى هداسا في جبل المشارف. 

كان على عابد أن يقرر إلى أين يتجه. ببطاقة هويته الخضراء كمقيم في الضفة الغربية، لن يُسمح له بدخول القدس وسيخضع للتحقق من هويته في هداسا. بدت الشائعة المتعلقة بالرام غير موثوقة، فليس هناك مستشفى. 

وبدا افتراض المركز الطبي في رام الله هو الأكثر احتمالا. طلب من شخصين لا يعرفهما أن يأخذاه إلى هناك. كان هذان الشخصان قد قطعا ساعتين ونصف بالسيارة، وكانا قادمين من جنين وكانا يتجهان في الاتجاه المعاكس. لكنهم وافقوا دون تردد.

استغرق الأمر وقتًا طويلاً للخروج من الازدحام المروري الناجم عن الحادث. وعلى طريق القدس - رام الله، مروا بالقرب من" كيدز لاند"، المركز الترفيهي الذي كان ينبغي أن يكون الأطفال فيه في هذا الوقت. 

وعلى سطحه كان بالإمكان رؤية" سبونج بوب العملاق"، إحدى شخصيات الرسوم المتحركة المفضلة لدى مِيلاد.

وبمجرد وصولهم إلى رام الله، توقف عابد وهذان الغريبان الطيبان أخيرًا أمام المستشفى، عند المدخل الذي سادت فيه الفوضى: سيارات إسعاف بأصوات صفاراتها المدوية، وطاقم طبي يتولى معالجة الأطفال المصابين الممددين على نقالات المستشفى، والآباء المذعورين يصرخون ويبكون، وفرق تلفزيونية تجري مقابلات مع أعضاء طاقم المستشفى... حاول عابد وهو يشق طريقه وسط كل هذا الجنون وهو يلهث ويشعر بضغط في صدره، كبح شعور متزايد بالرعب. لكن دون من جدوى حقًا. 

وبدلًا من ذلك، بدأت فكرة مزعجة تهاجمه: هل أنا أُعاقب على ما فعلته بأسمهان؟