أدبُ الرحلاتِ.. توثيقٌ واستكشافٌ ومتعةٌ في السرد

ريبورتاج 2024/06/02
...

   رحيم رزاق الجبوري

لا تزال ذاكرتنا تحتفظ باسم {ابن بطوطة} الذي ترسخت صورته وهيئته المتخيلة في أذهاننا منذ الصغر، وعرفنا لاحقا من خلاله استكشاف عوالم وبلدان وأماكن مختلفة، إذ يعد من أعظم وأقدم الرحالة المسلمين، وقد بدأت رحلته عام 725 هـ من طنجة بالمغرب إلى مكة المكرمة، وظل قرابة 27 سنة يرحل متنقلا من بلد إلى آخر، ثم عاد في النهاية ليملي مشاهداته وذكرياته ويدونها للأجيال. ليفتح بابا جديدا لكل من يود أن يبحر في معرفة واستكشاف مدن جديدة ويغوص في وصفها وتعريفها للناس. فهو واضع اللبنة الأولى لـ"أدب الرحلات" الذي له خصائص ومميزات يجب أن يتحلى بها لمن يريد أن يستلذ بفنونه.

فعلاوة على وجوب امتلاكه لخاصية الصبر، ودوام استمراريته في السفر، وحرصه على متابعة حياة السكان ومعرفة طريقة عيشهم وعاداتهم؛ عليه أن يكون صاحب قدرة فائقة في السرد والوصف الدقيق للأماكن والمناظر والأشخاص التي يصادفها خلال رحلاته.
وكذلك قدرته على تقديم رؤية ولمحة فريدة لكل ما يدونه، معتمدا على تحليلات عميقة وصائبة، فضلا عن استعراضه للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والجغرافية. كل ذلك يؤطره اتقانه لقواعد اللغة وأصولها وفنونها، والتعبير بأسلوب جذاب ومثير وملهم؛ لكي ينقل القارئ في رحلته المكتوبة لأماكن وأقوام وشعوب مختلفة في الثقافة واللغة والدين والطباع والتفكير والعبادة والحياة اليومية.

الأكثر تشويقا
يرى الدكتور حسن مدن (كاتب وباحث) من البحرين: "أن أدب الرحلات، يعد من أكثر الكتابات تشويقا؛ حين يكون الكاتب متمكنا ودقيق الملاحظة، وللمتعة في هذه الحال مصدران على الأقل، الأول: هو تعريفنا، كقراء، على ما نجهل من بلدان وأمكنة، زارها الكاتب المعني، فحكى لنا ما رآه فيها، وبالتالي مدّنا بمعلومات لا نعرفها، أكان ذلك في وصف الطبيعة أو المعالم أو سمات الناس وطبائعهم في البلدان، موضع الحديث، أما المصدر الثاني فهو أسلوب الكاتب ورؤيته؛ تصبح القراءة ممتعة وشائقة حين يكون تعبير الكاتب عمّا رأى ممتعا وشائقا، وتكون كذلك أيضا حين يتحلى هذا الكاتب بنباهة ودقة في التقاط التفاصيل.
وليس كل كتابات الرحالة تتمتع بذلك، ولكن لا يجد الباحث بُدًا من العودة إليها، حين يريد إضاءة زوايا موضوع يتناوله، خاصة حين يخص التاريخ، وربما الجغرافيا بمقدار ما، فلعلّه يعثر على معلومة نادرة التقطها ذلك الرحالة في المكان الذي قصده، ولا يقتصر الموضوع على المعلومات وحدها، وإنما يشمل الانطباعات التي كوّنها الرحالة ودوّنها في كتاباته".

عين الغريب
ويضيف: "ما يميز أدب الرحلات، هو أنه يتيح لك معرفة المكان أو الواقعة أو الأفراد بعين الغريب.
فلا يمكن اعتبار وصف يكتبه كاتب لبلاده أو مجتمعه بأنه أدب رحلة، حتى لو طال مدينة أو منطقة أخرى غير تلك التي يسكن فيها في ذلك البلد، فهو يرى ذلك بعين أبناء بلده وثقافتهم، وما يثير فضولنا فعلا هو أن نرى كيف رأى الآخرون بلدانا أو أماكن غير بلدانهم وأمكنتهم، وكأمثلة يجذبنا كثيرا أن نعرف مصر أو بلاد الشام والعراق أو الجزيرة العربية أو بلدان المغرب العربي في عيون الرحالة الأوروبيين أو في كتابات صينية أو هندية قديمة، ليس لأن أصحابها رؤوا ما لا نراه بالضرورة، وإنما أساسا، لأنهم رؤوه بعيون أخرى غير عيوننا، ومن موقع ثقافي وحضاري مغاير لموقعنا.
 فمؤلف كتاب «أدب الرحلات»، كارل طومسون، الذي ترجمه محمد الجندي وصدر عن المجلس القومي للترجمة في مصر، ينبهنا إلى أمر مهم، حين تحدث عن «الوهم والحقيقة» في أدب الرحلة، كأنه يحذر من التسليم بكل ما يكتب في هذا المجال، فقد ينطوي الأمر، إضافة إلى الحقائق، على مقادير من التلفيق أو المبالغة".

الطفرة التكنولوجيَّة
إلى ذلك يقول د. أيمن حمادة (أديب وكاتب من مصر): "لا شك أن هناك أنواعا من الآداب غابت عن أذهاننا وفكرنا وأوشكت على الاندثار والانهيار.
والسبب يعود للطفرة التكنولوجية التي بسطت الاطلاع والتواصل ويسرت سبل الكتابة والنشر. وعموما يبقى أدب الرِّحلات هو أدب نوعي ومن مسماه يتضح لنا أنه عبارة عن موضوع يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور أثناء رحلة قام بها لأحد الأماكن أو البلدان مما جعل مؤلفات أو كتب الرحلات من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، التي قدمت للقارئ المعلومة من خلال المشاهد الحية والتصوير المباشر الذي أضفى عليه متعة التسلية والتشويق.
وهناك روايات وقصص كثيرة دمج مؤلفوها خصائص أدب الرحلات عليها، فأصبحت تندرج تحت ما يسمى بأدب الرحلات".

خصائص
ويضيف: "كما تندرج تحت مسمى أدب الرحلات مجموعة كبيرة من الكتابات المختلفة في نواحٍ متعددة من حيث الأسلوب، والمنهج، والغرض من الكتابة، والجمهور الذي يتوجه إليه الكاتب، واهتمامات كل منهما، الكاتب وجمهوره.
لكن هذه الكتابات تشترك كلها في أنها تصف رحلة يقوم بها شخص ما إلى مكان ما لسبب ما، وهذا ما يميز كتب أدب الرحلات عن باقي الكتب.
ولك أن تتخيل كتابا يصف رحلة وكأنها مشاهد مصورة تصف المكان وطبيعته وحياة من فيه وأهم ما يميزه حتى بعض العادات والتقاليد لسكانه بما فيها من أنواع المأكل والملبس بل واللهجات واللغات".

الأوائل
ويكمل: "نشط أدب الرحلات أساسا على أيدي الجغرافيين والمستكشفين الذين اهتموا بتسجيل كل ما تقع عليه عيونهم أو يصل إلى آذانهم حتى لو كان خارج نطاق المعقول، ويدخل في باب الخرافة.
وبالإضافة إلى تسجيل رحلات الرحالة، هناك نوع آخر من أدب الرحلات هو القصص الخيالية الشعبية مثل: سندباد الذي يُعد رمزا للرحالة المدمن للرحلة، والقصص الأدبية مثل: قصة ابن طفيل عن حي بن يقظان، ورسالة الغفران لأبى العلاء المعري.
والملاحم الشعرية والأدبية الكبرى في تاريخ الإنسانية تعد كذلك من أدب الرحلات، مثل: ملحمة الأوديسا الإغريقية، وملحمة جلجامش البابلية، وملحمة أبو زيد الهلالي العربية وغيرها؛ لأن هذه الملاحم تنبني في جوهرها على حكاية رحلة يقوم بها البطل لتحقيق هدف معين، وقد تنبني تلك الرحلات الأسطورية على بعض الوقائع التاريخية أو الشخصيات الحقيقية في عصر ما، ثم يترك الشاعر لخياله العنان؛ ليخلق الملحمة التي هي خلاصة رؤية المجتمع لقضاياه الكبرى في مرحلة زمنية معينة".

تدوين وتسجيل
بدوره يؤكد حمدي العطار (كاتب وناقد وصحفي ورحالة عراقي): "أن أدب الرحلات يكون أكثر متعة وسعادة عندما يتم تدوين وتسجيل ما يشاهده المسافر من جمالية الأمكنة والمفارقات الطريفة التي تصادف أكثر المسافرين في الدول الأخرى؛ لأنه يجهل المتعارف عليه من سلوكيات قد تكون مقبولة عندنا ولكنها تثير الاستغراب وحتى الاستنكار عند الآخر.
وقد تحولت الكتابة عن الرحلة من الكتابة العلمية والجغرافية إلى الكتابة الإبداعية؛ فلم يعد الرحالة هو من ينقل الأخبار فقط بل هو من يتفاعل معها ويعيد صياغتها أدبيا، لذلك صار يطلق عن هذه الكتابات (أدب الرحلات) وهي من أجمل الآداب وأروعها لما تملكه من مرونة في السرد، إذ يمكن استخدام في السرد أنواعا متنوعة من الفنون الأدبية، مثل: (المقال والقصة والرواية والشعر والمذكرات والتاريخ والتراث الشعبي) كما يمكن الاستعانة بجمالية (الوصف والتحليل والتعليق) وكذلك المقارنة المنطقية بين الطبائع وطرق الطهي وعادات تناول الطعام والأعمال التراثية والعادات والتقاليد الاجتماعية، والطقوس الدينية وممارسة السياحة الطبيعية التي تتلاءم مع المناخ والطقس والمكونات الأخرى مثل (الجبال والبحار والأنهار).
ويمكن أن يكون السفر طريقا للمعرفة عند زيارة الآثار والمتاحف والمعارض وحضور المهرجانات والتعرف على قصور الحكام والملوك والسلاطين وطريقة معيشتهم بعد أن تحولت قصورهم إلى أماكن ومرافق سياحية فهي تدخل في مجال السياحة الاعتبارية".

مادة غنيَّة
ويضيف، العطار: "ولا يمكننا أن نهمل التفاصيل التي تكوّن المادة الغنية في السرد عند الكتابة الإبداعية في مجال أدب الرحلات، كما يثير اهتمامي زيارة المساجد القديمة والأسواق الشعبية والجسور والتمتع بالهندسة المعمارية لهذه الأماكن.
وقد تكون حجارة أو صخرة أو قطعة مركونة في مكان ما تتولد منها قصة وحكاية عظيمة لما تحمله من عبق الماضي.
كما يتناول الجانب التوثيقي من خلال زيارة المكتبات القديمة ومشاهدة المخطوطات والبيوت التراثية، وما تتعرض له من تغيرات يشير إلى عمرها الزمني وطريقة البناء تعطي فكرة عن طبيعة الناس وأخلاقهم وطرق المعيشة، وكذلك بيوت الشناشيل وما ينتج عنها من تواصل عن طريق الشبابيك الخشبية والجانب المهم والتوثيقي للمقاهي التراثية وغير ذلك".

جنس منفلت
ويختم: "يستند هذا الأدب إلى التاريخ البديل وليس الأكاديمي.
وبما أن (أدب الرحلات) جنس منفلت ويصعب توصيفه ووضعه في إطار محدود؛ لكن من أهم عناصره هو (الرحلة والوصف وقوة الملاحظة).
كما أنه ليس كل من يكتب عن المدن والشعوب الأخرى تدخل كتاباته إلى عالم (أدب الرحلات) إذ من المهم أن تكون هناك (رحلة) عابرة بمرور سريع يخلق الدهشة.
إذ لا تعد كتابات (المقيم) في ذلك البلد كأدب رحلات؛ بل هو أدب مغترب أو أدب المهجر؛ لأن طول الإقامة في ذلك البلد يفقد الكاتب الدهشة والسحر الذي يصيب الرحلة، وهو يشاهد الأماكن والأشياء لأول مرة! وعليه الإقامة في بلد غير الوطن بسبب العمل أو الدراسة أو اللجوء الإنساني أو السياسي وما ينتج عنها من كتابة لا تصنف ضمن أدب الرحلات؛ بل يمكن أن تكون سيرة ذاتية أو مذكرات مثل كتاب الأيام لطه حسين.
ويمكن كتابة رواية مثل روايات همنغواي من إيحاء الأمكنة والمدن وتصنف كرواية حتى لو كانت بيئة الرواية في بلد آخر عربيا كان أو أجنبيا".