تحقيق الصحة النفسيَّة السليمة

ريبورتاج 2024/06/03
...

 فجر محمد


لم يكن شقيقها وحسب بل كان صديقها المقرب، ومأمن اسرارها ومن شاركها طفولتها والعابها وكل ما تحب، ولكنها بعد وفاته فقدت شغف الحياة كما تروي والدتها وتقول الأم المكلومة: "منذ ان وصلنا نبأ وفاة ولدي، فقدت اسماء القدرة على النطق ولم تصرخ أو تبكي بل أصيبت بالدهشة والذهول عرضناها على عدة اطباء من اجل علاجها".

يرى الخبراء والمختصون أن الصحة النفسية ترتبط بشكل مباشر بسعادة وراحة الانسان، ولأن منطقة الشرق الأوسط ما زالت بعيدة عن الاهتمام العميق بهذا الجانب، وفق تعبير مدربة الحياة الدولية هاودم المفتي، فأن ذلك تسبب بزيادة الازمات النفسية التي بدورها قد تتسبب بتوقف الحياة والرغبة بالاستمرار في العيش، بالنسبة لمن يعانون من هذه المشكلات.

وتشاطرها الرأي زميلتها مدربة الحياة وتنمية الذات هند مزاحم مبارك، التي تعرضت شخصيا لتجربة قاسية اذ غادرت البلاد هي واسرتها، بسبب التهديدات التي وصلتهم ابان الصراعات الطائفية التي عصفت في البلاد، وترى مزاحم أن الصدمات والأزمات النفسية ستظل تلاحق اصحابها خصوصا أولئك الذين مروا بتجارب اليمة، مثل فقدان شخص عزيز أو عدم الشعور بالامان ولهذا ستبقى تلك الازمات بمثابة ندوب وجروح تحفر بدواخلهم وتطاردهم، ما لم يخضعوا للعلاج المناسب، والتركيز على مايمتلكونه من مواهب ومهارات.


حقائق مثبتة

تقدر منظمة الصحة العالمية انه من الممكن ان يصاب واحد من بين 8 اشخاص حول العالم، باضطرابات نفسية قد تؤثر في حياته ومستقبله، كما تتسبب بفقدانه السيطرة على مشاعره أو ضبط سلوكه. ووفقا لتلك الاحصائيات فأن العام 2019 شهد اصابة اكثر من 900 مليون شخص، باضطرابات نفسية في جميع انحاء العالم، وقد لوحظ ان القلق والاكتئاب هما الاكثر شيوعا في تلك الحالات تلاه العام 2020 الذي شهد هو الآخر مشكلات نفسية عديدة، نتيجة انتشار جائحة كورونا والحجر الصحي واجراءات السلامة التي فرضت على الجميع، فقد اكتشف خبراء الصحة النفسية ان اضطرابات القلق زادت بنسبة تصل إلى 26 بالمئة، اما الاكتئاب فقد تجاوزالـ 28بالمئة. 

ومن الجدير بالذكر ان الاضطرابات النفسية التي يتعرض لها الفرد، قد تكون سببا في ارتكابه الجرائم في بعض الأحيان، وبالنسبة للمجتمع العراقي فان العنف المجتمعي قد زاد بشكل ملحوظ وترجم من خلال الجرائم المتعددة، التي رصدت من قبل الجهات ذات العلاقة، مما يعني تردي الصحة النفسية للكثير من أفراده.


قلقٌ واكتئاب

تختلف قصة ايناس سمير عن سابقتها، بالرغم من وجود قواسم مشتركة فيما بينهما من ناحية اصابتهما بالاكتئاب، غير أن الشابة ايناس لم تكن سوى ضحية للتنمر من قبل أفراد أسرتها والاقارب بسبب اصابتها بالتلكؤ والتلعثم بالكلام في الطفولة، وهذا جعل منها عرضة للسخرية والضحك من أقرانها لذلك اختارت الانسحاب من الحياة الاجتماعية لفترة من الوقت، كما قالت وتابعت الحديث: "عانيت في طفولتي من التلعثم بالكلام، خاصة بعد الحادث الذي تعرضت له عندما حاول أحد الكلاب في الشارع الذي نسكن فيه، أن يهجم علي مما اصابني بالخوف والهلع وتسبب بالتأتاة، واستمرت الحالة لدي لوقت طويل". وهذا جعل الاطفال يسخرون ويتنمرون عليَّ كثيرا.

يحذر الاخصائي في علم النفس وتحليل الشخصية الدكتور قاسم حسين صالح، من مغبة التنمر على الاطفال، لأنها تؤثر بشكل كبير في شخصيتهم، وتزيد من اضطرابات القلق والاكتئاب والتفكير غير المنطقي، ويستعرض صالح ورقة بحثية صدرت عن مجلة هارفارد للطب النفسي توضح امكانية اصابة المرأة، التي تعرضت للتنمر في طفولتها، بأضطراب الهلع في سن الشباب. 

ويلفت صالح إلى ان التنمر يحرم من يتعرض له، من مزاولة حياته الاعتيادية ويؤثر في تكوين الصداقات الحقيقية في وقت لاحق من حياته، وربما يفسر الطفل الذي عانى من التنمر في طفولته العلاقات الاجتماعية بطريقة خاطئة، ربما تهدد مستقبله لاحقا.

ويرى صالح ان الاهتمام بالصحة النفسية، ما زال دون المستوى المطلوب ولهذا فان المجتمع بحاجة حقيقية إلى التثقيف والتوعية بهذا الجانب.


خطوات ناجحة

لم تستسلم ايناس لمشكلتها واضطرابها النفسي، بل اختارت ان تواجهه وان تلجأ إلى اخصائية نفسية، فضلا عن اخصائي نطق، من اجل الوقوف على اسباب هذه المشكلة وايجاد حل جذري لها.

ولذلك تدعو مدربة الحياة هند مزاحم مبارك كل من تعرض إلى اي ازمة نفسية مهما كانت طبيعتها، أو اضطراب ما إلى استشارة الاخصائيين، لأنهم قادرون على تحديد سبل واليات العلاج، وترفض ان يستسلم المصاب بمشاكل وازمات نفسية للوضع الذي هو فيه، بل من الواجب ان يلجأ إلى ذوي الاختصاص الذين سيساعدونه بشكل كبير في تجاوز الأزمة، وتساعد مبارك في الوقت الراهن العديد ممن تعرضوا لأزمات نفسية عن طريق التوعية والتثقيف، للوصول إلى الشفاء التام. 

اما مدربة الحياة الدولية هاودم المفتي فتدعو إلى زج واشراك الباحث النفسي، في المراحل الدراسية الاولى وتحديدا في مرحلة الروضة، من ثم المدارس وان لاتكتف الجهات المعنية بالباحث الاجتماعي فقط، بل يجب ان يكون هناك دورٌ كبيرٌ للمختص النفسي في تلك المرحلة الحرجة من حياة الفرد.


تجارب أليمة

تجلس اسماء وهي محاطة بذكرياتها مع شقيقها الذي فقدته، وترفض الاستماع إلى نصائح والديها بضرورة اللجوء إلى مختص نفسي والتجاوب مع العلاج، وتشير والدتها إلى أن أسماء أصبحت عصبية المزاج ومكتئبة، وتفضل العزلة والانطواء على مخالطة الآخرين.

وتوضح مدربة الحياة هند مزاحم مبارك ان معظم الاشخاص الذين تعرضوا لصدمات نفسية، تختار عقولهم الانطواء والعزلة والبقاء في منطقة الراحة كما يصفها علماء النفس، وتسيطر عليهم احزانهم فتقيدهم وتحبسهم في ماضيهم الأليم، وتمنعهم من التحرر.

ولكن مبارك تجد أن حتى التجارب الصعبة والاليمة، بمقدور اصحابها أن يحولوها إلى محطات نجاح لترسم لهم مستقبل افضل، وهنا تقع على عاتق المعالج النفسي مهمة اضاءة الطريق لمرضاه وايصالهم إلى بر الامان، وتشجيع المرضى على الانخراط ببرامج ونشاطات تريح أعصابهم، وتبعد تفكيرهم عن الماضي والاوجاع المصاحبة له، وتبين المدربة أن هناك نشاطات متعددة من بينها ممارسة التأمل الصحيح وأن يعدد الفرد النعم التي تملأ حياته، عوضا عن الخسارات والاوجاع. فضلا عن ممارسة هواياته المفضلة.


آليات للعلاج

قد تحتاج اسماء إلى فترة طويلة لكي تعود إلى حياتها الطبيعية، وستكون بأمس الحاجة إلى دعم واسناد اسرتها واصدقائها، ولكن مدربة الحياة الدولية هاودم المفتي، تجد أن هناك أشخاصا يحتاجون إلى العلاج بالادوية بهدف موازنة كيمياء الدماغ، والسيطرة على الاضطرابات الهرمونية، التي في كثير من الاحيان تكون ذات علاقة بالجانب النفسي، في حين ان هناك صنف اخر من المرضى قد يكون العلاج السلوكي والتمارين الخاصة بهذا المجال، فرصة لهم في التشافي والعودة إلى الحياة الطبيعية، وهذا ما فعلته مع العديد من المرضى. وتلقي المفتي باللوم على المجتمع ومؤثريه في زيادة الاضطرابات النفسية نتيجة ضعف الثقافة والتوعية النفسية، فضلا عن الاستخدام السيئ لمواقع التواصل الاجتماعي، وابتعاد الآباء والامهات عن أولادهم، والانشغال عنهم في زحمة الحياة السريعة، والتطور المتلاحق في مختلف مفاصل الحياة. ولهذا تناشد المفتي أولياء الامور للاهتمام بأبنائهم بشكل أكبر والاقتراب منهم ومعرفة مشكلاتهم الخاصة، وفي حال تعرضهم لازمات معينة عليهم أن يتواصلوا مع ذوي الاختصاص النفسي، لوضع الحلول قبل فوات الأوان.