اللغة العربيَّة الخامسة.. ضرورة الطرح وتدابير العمل

ثقافة 2024/06/05
...

د. شاكر عجيل الهاشمي




(اللغة العربية الخامسة) مصطلح أطلقه الدكتور محمد تقي جون على (الفصحى المعاصرة) وقد عدَّها (فصحى هجينة) يعني أنها ترقى على العامية ولكنها لا تصل إلى الفصحى المتوارثة، وهي النسخة الخامسة والأخيرة حتى الآن للغة العربية بعد أربع نسخ سبقتها: العربية الجاهلية، العربية القرآنية، العربية العباسية، عربية القرون الوسطى.
   ويرى الدكتور أن اللغة العربية ولاسيما في العصر العباسي وما بعده قد تلاقحت مع اللغات المجاورة وتثاقفت مع الثقافات المعاصرة، وأضيف لها ما عرف بالمعرّب والدخيل، بل إن كتباً ودراساتٍ تؤكد أن العربية أثقلت بألفاظ كثيرٍ من الأمم المجاورة، مثل: الفرس والترك والكرد والمغول وغيرهم، ولا يوجد من ضير في الاقتراض من هذه اللغات، فكل لغات العالم تقترض من غيرها، وتورّد مفرداتها إليها، فما الجديد في ذلك؟

   إن الجديد الذي يؤكده الدكتور محمد تقي في كتابه (اللغة العربية الخامسة – الفصحى الهجينة) الصادر عن دار الشؤون الثقافية 2022 والذي يقع في 432 صفحة، أن هذه اللغة وضعها المترجمون بإشراف الخديوي منذ القرن الثامن عشر لاستيعاب عصر التكنولوجيا، فطوعوها لتقابل المعاني الإنكليزية العصرية، ولم تكن اللغة العربية الخارجة من عصور التخلف والاحتلالات المريرة وإثقالها بقواميسَ لغاتٍ أخرى وابتلائها بالعاميات بقادرة على التماهي مع عصر التكنولوجيا، ولا قادرة وهي المتعبة بمجاراة اللغة الإنجليزية وهي في عز شبابها وتطورها، كما أن الفرق الحضاري يحسم سيادة الإنجليزية على العربية كما حسم سيادة العربية على لغات الشعوب التي دخلت الإسلام قبلاً.

  لذا أصبحت العربية أمام مطلبٍ ملحٍ لتكون فيما بعد صورة حية مرنة للتقبل اللغوي العام، ومعرفة ما يمكن أن تستلهمه من اللغات الأخرى ليرفد معجمها الدائم، فليس من الطابع الحضاري أن تكون اللغة محجمة ومقفلة إلى الدرجة التي تجعلها مقصورة على نطاق إنساني جغرافي معين.

  إن الاقتراض لم يكن في الألفاظ الإنجليزية أو التصرف الصوتي والبنائي لها لتدخل في حظيرة اللغة العربية، بل كثيراً ما وضع المعنى الحضاري الجديد على حياة العرب، ومن ثم عدم وجود مقابل له في لغتنا، في لفظ عربي بعدما أجريت له عملية تحنيط فأخرج معناه العربي الفصيح ووضع مكانه المعنى الحضاري، ومن ثم صارت لدينا ألفاظ عربية بمعان إنجليزية!! وهذه الألفاظ الجديدة أو المسوخ اللغوية علينا أن نعترف بها رغماً على أنها عربية وفصيحة.  

فحين أرادوا لفظاً يقابل (Bomb) لم يجدوا، فعمدوا إلى كلمة عربية فصيحة (قنبلة) بعد ضم قافها، وهي بفتح القاف وليس ضمها، وتعني (طائفة من الخيل) فافرغوا المعنى العربي الفصيح ووضعوا المعنى الإنجليزي وهو (المتفجرات)، ومثله كلمة (Microbe) لم يجدوا مقابلاً عربياً لها فافرغوا كلمة (الجرثومة) من معناها وهو (الأصل، وعشائر العرب) ووضعوا مكانه (الكائنات الدقيقة)، ولم يعرف العرب المسرح ولكن أطلقوا على محل الرعي (المسرح) فحول من مكان رعي الماشية إلى المفهوم الحديث. ومثل هذا بالأطنان.

 لقد حدث بهذه العملية بتر وقطع بين الفصيحة الحالية ولغة العرب الفصيحة؛ فالألفاظ وإن كانت متشابهة إلا أنها لا تعطي نفس المعاني، فعزل الحاضر العربي عن ماضيه المشرق، فإذا قيل لعربي قديم (هذا من أصحاب السوابق) فسيظن أنهم يقصدون (من أصحاب الخيول) لأن السوابق عربياً تعني (الخيول السريعة) وإذا قيل له (أخي رائد) وإذا قيل له (لا تزعجني) سيعتذر فوراً ويقول هيهات استفزك للسفر بعيداً، لأن الإزعاج حمل الشخص على الهجرة. وإذا قيل (اعتقد أن صاحبك يأتي) فسيبقى بانتظاره أبداً؛ لان كلمة (اعتقد) عربياً من الاعتقاد الراسخ والتأكد وليس الظن وهي ترجمة لـ(I think) ولكي نتكلم الفصحى علينا أن نقول (أظن أن صاحبك يأتي).

   إن الكثير مما نقوله لا يمت إلى لغة العرب بصلة بل هو ترجمات عن الإنجليزية والفرنسية وغيرهما، ولكننا وغيرنا نقطع بأنها عربية مثل: (المعنويات) أخذت من أحد معاني (spirits).(Controversial =مثير للجدل) (مثير للشفقة = Pathetic). ويقال (حركة انقلابية وحراك سياسي) ترجمة لـ(Move و Activity). و(التصويت) في الانتخابات ترجمة غير موفقة لـ(voting) ومعنى التصويت عربياً (رفع الصوت عالياً، وأذان المؤذن، وصياح الراعي). والمسرح (مكان الرعي) حورت إلى (خشية للتمثيل). ومصطلحات مثل (التوليدية) ترجمة لـ(generative) (التداولية) ترجمة لـ(deliberative)، ولك أن تتصور حجم غرقنا في ما نقلنا وعرَّبنا من مسمّيات المخترعات والعلوم والسياسة والاجتماع والفنون وحتى اللغة والأدب.

بل اخترقت القواعد، وهي البناء التحتي للغة، و(أمّ العلوم) فعليها تؤسس علوم: النحو، والصرف، والألفاظ، والمعاني، والتأثيل (علم أصول الكلمات). وما يتصل بهذه من علوم أخرى كالأصوات واللسانيات واللغة والإملاء وغيرها من شبكات العلوم الأخرى. فهي تمثل منظومة جينية كاملة تحدد عرق اللغة وهويتها الخاصة بها جداً. ولم تخترق قواعد اللغة العربية طوال عهودها حتى بعد وقوعها تحت تأثير احتلالات أجنبية مختلفة أصبحت هي أقل أهمية من لغاتها التي أخذت الصدارة،     ظلت اللغة محافظة على قواعدها وهي تتهاوى في العجمة والعاميات، فبقيت عربية في جوهرها وهويتها لا غبار عليها في ذلك حتى هوت في لغتنا المعاصرة. فصرنا نقدم المضاف عليه على المضاف (أستاذ مساعد، علي مول)، وننسب إلى المصدر (تدريسي، فدائي)، ونستعمل كاف as(نحن كعراقيين)، ونجمع الأعداد (ستات، سبعات، عشرينات) والنفي بـ(اللا) (اللاعودة، اللامنتمي) ونجرّ الحال والحال منصوب فقط (أقول بصراحة، تكلمت بحنان) ولا أقول أن الصراحة لا علاقة لها بقول الصدق، فهم يقولون هذا صريح النسب أي خالصه. وصرنا نتعجب بعبارة (يا لجماله، يا له من جميل) ناسين (ما أجمله، أجمل به) صيغتي التعجب العربيتين. وكنا نستعمل للآلة اسماً يشتق غالباً من الفعل الثلاثي المتعدي، وقد يشتق من اللازم. وله ثلاثة أوزان قياسية هي: (مِفعَل) و(مِفعَال) و(مِفعلة). وتوجد أوزان غير قياسية  مثل (قلم، سيف، رمح ). فصارت أسماء الآلة لا تحد ولا تعد حسب ما أحوجت إليه الترجمة (مِفعَال = مصباح، مِفعَلة = مطرقة، فَعّالة = ثلاجة، فعّال = (خلاط، مُفعِّل = محرّك، فَاعِلة = رافعة، فاعُول = حاسوب، وأوزان غير قياسية مثل: (ساعة، فرجار، بندقية، كوب، بروش) وغير ذلك..

حقا علينا إعادة صياغة لغتنا العربية المعاصرة من قبل كبار اللغويين وليس المترجمين. فبهذه اللغة صار الجيل لا يفهم القرآن ولا يفهم التراث، والبدء بالمشروع اللغوي الجديد الذي يتيح للعربية الحديثة استلهام التطور التواصلي العالمي عبر لغاته المختلفة، فمثلما بدأت العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالتقبّل الفعلي لفرضيات الواقع اللغوي العالمي، لابد لها أن تتعامل بذكاء كبير اليوم مع ما يحدث من طفرة تواصلية في علم اللغة العام لاسيما أن الرقمنة دخلت إلى المجال بقوة كبيرة ومؤثرة.