أسلمة العلمانيَّة في الفكر العربي
د. طه ياسين
تعبير العلمانية تعبير محدث لم يرد له ذكر في المعاجم العربيَّة القديمة، وقد ورد هذا التعبير أول مرة في قاموس ثنائي اللغة (فرنسي\ عربي)، ألفه أحد تراجمة الحملة الفرنسية وأسمه {لويس بقطر المصري}، وقد طبع جزؤه الأول في مارس 1828، ثم دخلت الكلمة بعد ذلك إلى اللغة العربيَّة، وأول معجم ورد فيه هذا التعبير هو {المعجم الوسيط}، وقد فرَّق هذا المعجم بين لفظين العَلماني والعلماني، الأول نسبةً للعالم والآخر نسبة للعلم.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك من خاض في مفردة الاشتقاق أمن العِلم هي فيقال عِلمانيّة، أم من العالم فيقال العَلمانيّة؟، فأخذ البعض العِلم ليكون الأساس المعتمد في دراسته، في حين ذهب البعض الآخر إلى أنها تحمل معنى العالمي، وهو الإنسان الذي يحمل تفكيراً دنيوياً مدنياً، وليس تفكيراً أخروياً منصباً على الدين وقضاياه.
ويرى جوتفرايد كونزلن أن مفهوم العلمانيّة مفهوم غامض ومتعدد لذلك هو يدرج أربعة مفاهيم منها: أن العلمنة هي عملية تراجع السلطة المسيحيَّة ولا سيما بشكلها الممأسس، كما ويمكن فهمها بأنّها عملية تحول ما هو في الأصل معتقدات مسيحيّة إلى مفاهيم دنيويّة، أما من منظور لاهوتي ولا سيما بروتستانتي، فإنّ بالإمكان فهم العلمنة على أنّها نتيجة مشروعة وضرورية من نتائج العقيدة المسيحية التي تدعو إلى الحرية، كما أنه يرى أن مفهوم العلمانية مفهوم يرتبط بعلم الاجتماع والذي يمثل جزءاً من موروثات عصر التنوير، والذي يصور العصر الحديث على أنه عملية منطق يتصف بالانفتاح والتحرر من جميع الروابط والجذور.
من منطلق هذه المعاني لمفهوم العلمانيَّة وجدنا أن المفكر عبد الوهاب المسيري يرى أن المجال الدلالي لهذه الكلمة أخذ بالاتساع وصولاً إلى معناه المعاصر الذي يُنبئ بإمكانية إصلاح أحوال الإنسان وذلك بالاعتماد على الوسائل المادية، من دون الحاجة إلى قضية الإيمان، وعدم التصدي لها بالقبول أو الرفض.
كما أن من أشهر التعريفات للعلمانيَّة هو التعريف القائل: العلمانيَّة هي فصل الدين عن الدولة، وهو في الحقيقة لا يعطي المغزى الكامل للعلمانيّة الذي ينطبق على الفرد وعلى السلوك الذي قد لا تكون له صلة بالدولة، لذلك يرى البعض، أن حصر العلمانيّة في هذه الدائرة الضيقة، دائرة فصل الدين عن الدولة وحسب، هو عملية استبعاد للدائرة المعرفيّة الأشمل للعلمانيّة، لذلك طرح المسيري فكرة العلمانيتين الجزئية والشاملة:
1 - العلمانيَّة الجزئيَّة: هي رؤية جزئيّة للواقع لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائيّة المعرفيّة، وتذهب إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وبعض الجوانب الأخرى للحياة العامة، وهي ما يعبر عنها (فصل الدين عن الدولة)، ومثل هذه الرؤية الجزئيّة تلزم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة، كما أنّها لا تنكر وجود مطلقات وكليات أخلاقيّة وربما دينيّة؛ لذا لا تتفرّع عنها منظومات معرفيّة أو أخلاقيّة.
2 - العلمانيَّة الشاملة: هي رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي كلي ونهائي، تحاول تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات بكل مجالات الحياة، وهي رؤية عقلانيّة ماديّة، تدور في إطار المرجعيّة الكامنة الواحديّة الماديّة، وترى أن مركز الكون كامن فيه، أن العالم بأسره مكون من مادة واحدة، ليست لها أية قداسة ولا تحوي أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات، أو المطلقات، أو الثوابت، هذه المادة تشكل كلاً من الإنسان والطبيعة، ويتفرّع عن هذه الرؤية منظومات معرفيّة، وأخلاقيّة.
والعلمانيّة الشاملة، بهذا المعنى، ليست فصل الدين، أو هذه القيمة، أو تلك عن الدولة، وإنما هي فصل لكل القيم الدينيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة المتجاوزة لقوانين الحركة الماديّة والحواس عن العالم، بحيث يصبح العالم مادة نسبيّة لا قداسة لها.
والعلمانيّة بهذا المفهوم تعتبر في ميزان الإسلام مفهوماً جاهليّاً، إذ تعني عزل الدين عن شؤون الحياة، وذلك أن الإسلام دين متكامل جاء لينظم الحياة بأوجه نشاطها ويوجه الناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وإبعاد الدين عن الحياة وعن شؤون الدنيا، وعزله عن العقيدة والشريعة والاقتصاد والسياسة والتعليم والأسرة والمجتمع وغيرها.
وإنّ مفهوم العلمانية مفهوم غامض وغير واضح وله عدة مفاهيم كما أسلفنا، إذ إنه كان، وما يزال، مدعاة للّبس وسوء الفهم، وهذا ما يفسّر لنا تباين وجهات النظر بشأن العلمانيّة كمفهوم بشكل عام وعلاقتها بالإسلام بصورة خاصة، فهناك من يرى أن العلمانيّة، مفهوم وافد ولا شأن للإسلام به، وهو مفهوم مزيَّف "وأنه من الواجب استبعاد شعار العلمانيّة من قاموس الفكر العربي"، لأنَّ العلمانيّة والإيمان نقيضان، فإنّ الإيمان يقضي الانقياد والإذعان لما جاء من عند الله، والعلمانيّة تقضي التمرّد على الوحي، والكفر بمرجعيته في علاقة الدين بالحياة، وإطلاق العنان للأهواء البشريّة.
ففي العالم الغربي، فُصل ما بين السلطة الدينيّة والسلطة السياسيّة ، وأُعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وأصبحت العلمانيّة هناك جزءاً من الحياة اليوميّة، وقامت عليها الدساتير الأوروبيّة، فلا دين رسمياً للدولة، ولا دين لرئيس الدولة كأحد شروط الرئاسة، ولا قانوناً كَنَسِيَّاً ينظم العلاقة بين الأفراد مثل قانون الأحوال الشخصية، ولا تعليم دينياً في المدارس، ولا دعوات دينيّة في أجهزة الإعلام، واتخذت العلمانية معنى شاملاً يدل على تحرر جميع الناس، من القيود الروحيّة، وخضوعهم لسلطة أخرى هي سلطة الفكر البشري الحر، والعقل العلمي الرياضي، كما أصبحت ترمز إلى غياب المثل الدينيّة في كل شكل من أشكال الثقافة الإنسانيّة، وسائر العلوم، مما جعلها من أهم أركان المعاصرة والحداثة في الفكر الغربي.
ولهذه الفكرة تاريخ في الفكر العربي تعود جذوره إلى القرن التاسع عشر، أي إلى اللحظة التي كانت فيها الإصلاحية الإسلامية، مع الشيخ محمد عبده خاصة، تدشِّن نظرة جديدة إلى العلاقة بين الديني والسياسي، قوامها التمييز بين مجاليهما، ونفي وجود مبدأ السلطة الدينية في الإسلام.
العلمانيّة في هذه الفترة أقصد فترة محمد عبده كانت تهدف إلى فصل الدين عن السياسة بهدف الوصول إلى دولة مدنيّة حديثة، وهنا يعتبر محمد عبده الممهد الأول للعلمانيّة بمفهومها الذي يشير إلى فصل الدين عن السياسة، وترسيخ الفكرة القائلة بأن الإسلام لا يمنع علاقة الفصل بينهما، وهذا ما فعله الشيخ علي عبد الرزاق لاحقاً.
طبعاً هناك من حاول من أمثال عبد الإله بالقزيز أن يعود بجذور العلمانيّة العربيّة إلى مصر ولبنان وعدد الكثير من الشخصيات وأغلبها من المسيحيّة، وهذا شيء طبيعي على اعتبار أن المسيحيّة هي من الأقليات في الوطن العربي، ومن ثمّ كانت تدعو إلى قوانين وضعيّة بعيدة عن الدين وتأسيس دولة مواطنة أو الدولة الديمقراطية التي تحقق الاندماج الاجتماعي، وتقوم على مبدأ الحرية.
لكن أبرز بلد تبنّى العلمانية هو تركيا وقد عمل كمال أتاتورك على إسقاط الخلافة الإسلاميّة، وتطبيق الأنموذج الغربي في الحياة كلها، وأقام دستوراً لا دينيّاً يعزل الدين عن الحياة عزلاً كاملاً.
وقد تباينت آراء الفكر العربي المعاصر بين القبول والرفض للعلمانيّة، فالإصلاحيون الأصوليون مثلاً رفضوا العلمانيّة بشقيها إذا كانت مشتقة من العالم أو من العلم، ومنهم من رفض الأول وقبل بالآخر، أي قبل العلمانية إذا كانت مشتقة من العلم فقط كما فعل القرضاوي وإن كان يشك باشتقاق العلمانية من العلم، حيث يقول: "فإنّ البون شاسع بين العلمية والعلمانيّة، ونحن نقول: نعم للأولى ولا للثانية".
عموماً فإن الأصوليين رفضوا هذه المقولة على اعتبار أنّها مستوردة من الفكر الغربي، وهي يمكن أن تطبق في محيطها لأنّ محيطها يقبل الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، لكن في المحيط الإسلامي لا يمكن ذلك على اعتبار أن الديني الإسلامي جاء مشرعاً لكل شيء، بعكس المسيحيّة التي لم تأتِ بنظام كامل للحياة يقودها بتشريعاته وأوامره ونواهيه.
كما أن هناك من بالغ في رفضها وقال: "العلمانية ثورة على النبوّة"، وبما أنّها تفصل بين الدين والسياسة فهي ترفض الوحي وتكفر بمرجعيته، فالعلمانية سيادة العقل وحده، والدين يقوم على مقومات غيبيّة لا عقلانيّة هذا من جهة ومن جهة أخرى، فالعلمانيّة لا تؤمن إلا بما دلت عليه التجربة والحواس، وعليه فالعلمانيّة والدين الإسلامي نقيضان لا يجتمعان، فالعلمانية تنطلق من مواقف أيديولوجية مسبقة، أغلبها ماركسي مشبع بموقف ماركس العدائي ضد الدين.
وهؤلاء مجمعون على أن العلمانية ظاهرة أوروبية محضة، سواء على المستوى النظري أو في مستوى التطبيقي، فهي ولدت في أوروبا نتيجة للتعارض الذي نشأ بين الدولة والكنيسة، ونتيجة للتعارض بين المجتمع والكنيسة بسبب تحالفها مع النظام الاقطاعي والطبقة الحاكمة من النبلاء، وكذلك للتعارض بين حركة العلم الصاعد وبين الكنيسة وتمسكها بنظريات في تفسير الطبيعة والتاريخ واعتبرتها نهائية ومنزلة من السماء، فظهر اتجاه فلسفي جديد ارتكز على المبدأ القاضي بوجود سلطتين، أو مصدرين للسلطة: الكنيسة والدولة، فيذهبون إلى أن الدولة مستقلة عن الكنيسة بكل معنى الكلمة، وشرعيتها غير مستمدة من الكنيسة كما كان الحال عليه في الماضي، واستمر تجريد الكنيسة من سلطانها ببطء، إلى أن حُل الصراع بين الدولة والكنيسة بالفصل بينهما، وجعلت سلطة الكنيسة في دائرة خاصة، وسلطة الدولة شاملة لكل ما يتعلق بشؤون المجتمع السياسي.
وهكذا ولدت العلمانية في مواجهة الكنيسة.
ومن ثمَّ فإنَّ هذا لا ينطبق على الإسلام؛ لأنّه لا يوجد في الإسلام صراع بين مصدرين للسلطة، ولا احتكار من قبل لاهوت للدنيا والدولة والاجتماع والمعارف والعلوم، و"إذا كان هذا هو حال القضية في الأنموذج الحضاري الغربي، فإنَّ أمرها ليس كذلك في السياق الإسلامي".
كما يرى طه عبد الرحمن أن مسألة الفصل بين الديني والسياسي هي بالأحرى فصل بين العالم المرئي، والعالم الغيبي، فالإنسان في العالم المرئي يرى ببصره في حين أنه يرى العالم الغيبي في بصيرته، وهاتان الرؤيتان تكمل إحداهما الأخرى، كما أنه يتعجب من الذين يفصلون بين العالمين، فهؤلاء يأخذون بكمالات العالم الغيبي ويضيفونها إلى العالم المرئي، وأحد هذه الكمالات التي أضافوها هو"الجلالة"، ويقصد بالجلالة هنا إضفاء صفة الألوهية على الإنسان من خلال جعلهم الإنسان يتحمل أمر تدبير شؤونه بنفسه، من ثمّ فإنّ هذا جعل الإنسان يتسلّط ويتأله متعبّداً لنفسه فضلاً عن تعبده لغيره.
فهؤلاء بنظر طه عبد الرحمن نظروا إلى الإنسان على أنّه كائن لا يمكن أن يحيا إلّا في عالم واحد، فهو كائن أفقي غير عمودي، وعلى أن هذا العالم الواحد هو العالم الذي بين يديه، أي ما يسمّى بالعالم المرئي، أو بتعبير أصيل "عالم الشهادة" فهو مثلاً لا يتعامل سياسيَّاً إلّا في العالم المرئي وحده، ولا يعمل دينيَّاً إلا في هذا العالم نفسه.
وهناك من يرفضها جملة وتفصيلاً، على أساس أنّها نزعة إلحاديَّة، بناءً على أن العلمانيّة هي اللادينيّة أو الدنيويّة، وهي تسعى إلى تهميش الدين وتنحيته عن التنظيم الاجتماعي والسياسي وفرض نظام سياسي واجتماعي مادي معادٍ لعقيدة المجتمع والأمة ومفصول عن مصادرهما الروحيّة والثقافيّة، وعلى الرغم من وجود علمانيّة معتدلة، بحسبه، وغير معادية للدين، وأخرى متطرفة مضادة للدين، إلا "أنّه بالنسبة للإسلام لا فرق بين المُسمّيين، فكل ما ليس دينيّاً من المبادئ والتطبيقات فهو في حقيقته مضاد للدين، فالإسلام واللادينيّة نقيضان لا يجتمعان ولا واسطة بينهما".
ويرد القرضاوي مسألة الإلحاد رغم أنّه من الرافضين للعلمانية فيقول: "إنّ مفهوم الإلحاد هو إنكار وجود الله سبحانه، لكن العلمانيّة حسب مفهومها لا تعني بالضرورة الإلحاد، قد يوجد من العلمانيين من يجحد وجود الله تعالى، أو يجحد رسالاته ووحيه، لكن هذا ليس من اللوازم الذاتية لفكرة العلمانيّة، فإنَّ الذين نادوا في الغرب لم يكونوا ملاحدة ينكرون وجود الله، بل هم ينكرون تسلّط الكنيسة على شؤون العلم والحياة، فكل ما يعنيهم هو عزل الدين ممثلاً في رجاله وكنيسته عن سياسة الدولة".
وهناك من ذهب بعكس هذا الاتجاه ذي الصبغة الأيدولوجيّة، ودعا إلى تطوير المجتمعات الإسلاميّة وفقاً للأنموذج العلماني "فالإسلام يسمح بالعلمنة والتمييز بين الديني والزمني على عكس ما يتوهم الجميع".
إذ إن الإسلام منذ مرحلته الأولى كان ممتزجاً بأغراض واهتمامات دنيويَّة، "وفي مواجهة الفصل بين ما هو ديني وما هو زمني في الغرب العلماني، يريد الإسلام أيضاً أن يؤسس ما هو سياسي وما هو دنيوي على التعاليم الدينيّة".
وهؤلاء يرون بأنّه لا مفر من العلمانيّة، واصفين إيَّاها بالموقف، "موقف شامل ومتماسك من طبيعة الدين وطبيعة العقل وطبيعة القيم وطبيعة السياسة"، رافضين الفهم السائد للعلمانيّة، ويرون أنّه فهم سطحي قائم على تعريف العلمانيّة بالأغراض التي استهدفت تحقيقها الحركات العلمانيّة في الغرب، فهو تعريف لا ينظر إلى العلمانيّة من منطلق كونها، تمثل بشكل رئيسي، موقفاً من الإنسان والقيم والدين ولا من منظور كونها موقفاً أبستمولوجياً، أي موقفاً من طبيعة المعرفة العلميّة ومن كيفية علاقتها بالمعرفة الدينيّة، فالعلمانيّة وفق هذا المنطلق أعمق بكثير من تحديد وضبط العلاقة بين السلطتين الزمنيّة والدينيّة، "إنّها قضية تتعلق بما هو الموقف الصحيح من طبيعة الدين وطبيعة الإنسان وطبيعة القيم وبكيف يجب أن نفهم العلاقة، على المستوى الأبستمولوجي، بين الدين والقيم، إن الفصل بين السلطة الزمنيّة والسلطة الدينيّة... ينبغي أن يقوم على فصل من نوع أعمق، أي على فصل أبستمولوجي ومنطقي بين الدين والسياسة".