القَبِيلة والقَبَلِيَّة أيُّهما نقيض الدولة؟

منصة 2024/06/09
...

 أحمد شمس


الكلام في هذا السؤال يحمل الكثير من المنزلقات على مستوى الفهم والتفسير، ولكي تكون الطريق سالكة علينا أن نوضح أمرين قبل كل شيء:

الأمر الأول: هناك صورتان للقبيلة: أولاهما صورة القبيلة المعروفة على نطاق العالم وللدقة صورة القبيلة العربية المعروفة، منذ نشأة العرب قبل الإسلام والمنتشرة في أصقاع الأرض العربية.

أما الصورة الثانية فهي الصورة العراقية المعاصرة للقبيلة أو العشيرة، فالحديث عن الأولى يختلف جذريا عن الثانية وسيأتي ذلك.

الأمر الثاني: القبيلة بوصفها أنطولوجيا أو كيانا أو جماعة أو نسقا قرابيا تختلف تماما عن (القَبَلية)، فالأخيرة هذه تمثل نظاما حكميا أو نموذجا إرشاديا ومحددا سلوكيا وطريقة في التفكير ومختبرا لكشف التوجهات وردود الأفعال السلوكية.

إن الانتماء إلى القبيلة ولد مع فجر البشرية امتدادا لنظام العائلة، وهو النسق القرابي الأكبر في البناء الاجتماعي إذ تضيق دائرته إلى العشيرة فتضيق إلى الفخذ ثم إلى العمومة - أو الخؤولة في بعض المجتمعات- ثم تضيق إلى العائلة (البنوة والأخوة).

عاشت المجتمعات ملايين أو آلاف السنين - تترك المعلومة للتاريخيين- ضمن هكذا بناءات اجتماعية ترتكز في أساسها على النسق القرابي، الذي يلقي بظلاله المباشرة على الأنساق الأخرى كالثقافي والسياسي والاقتصادي والديني.

هذه القبائل مع تطور أنظمتها من خلال خبراتها وتجاربها تمكنت من ابتكار مفاهيم المِلكية والزعامة وغيرها لكن هذين المفهومين، هما الأكثر بروزا وتأثيرا على تطور المجتمعات، وصولا إلى نظام الدولة فالمِلكية لها صلة مباشرة بالاقتصاد وبالجغرافيا وحدود الأراضي المملوكة والعمل الذي يشمل الصيد والالتقاط بصورته الأولية. 

وهذا هو الركن الأساس في تشييد نظام الدولة، أما الزعامة فهي النسق السياسي الصريح لإدارة الدولة فيما بعد وممارسة الحكم والقضاء والفصل بين الناس وتحديد وتشكيل العلاقات الداخلية والخارجية للدولة.

تأسست الدول إذن على مفهومي (المِلكية والزعامة) القبلية، وحتى سميت بعض الدول بأسماء القبيلة الحاكمة صراحة منذ التاريخ القديم، حتى يومنا هذا كدولة الغساسنة والدولة الحميرية ودولة بني أمية ودولة بني العباس وإمارة كعب ودولة السعودية والدولة العراقية الهاشمية في العهد الملكي والدولة الأردنية الهاشمية وغيرها من الدول.

بعض الدول كانت مقاطعات قبلية تسلّم فيها الزعامة أو السيادة للعشيرة، التي يختارها اتحاد القبائل للحكم لدواعي القوة أحيانا أو لدوعي دينية، أو لأي اعتبار آخر تراه القبائل منطقيا، لكن المقاطعات تبقى تحت تصرف القبيلة المالكة للأرض ضمن تقسيم صلاحيات يتفق عليه، فمثلا في فترة الحكم الملكي كانت معظم الأراضي العراقية تخضع لسلطان شيوخ القبائل على شكل إقطاعيات، يمتلك شيخ القبيلة فيها صلاحيات كبيرة كالتسليح ومعاقبة البشر والحكم بالسجن والنفي والتهجير والإعدام وتنظيم الاقتصاد وامتلاك العبيد وتوزيع الأراضي والزراعة وغيرها.

مع الاعتراف بأن الدولة بشكلها التأسيسي الأولى كان للقبيلة اليد الطولى فيه، إلا أن مفهوم الدولة الحديث مبني على رؤى فلسفية متطورة، وهي نتاج طروحات وتنظيرات آلاف المفكرين والعلماء، فنشأت الدول الحديثة على مبادئ معينة فلسفية سياسية وإقتصادية كالاشتراكية والرأسمالية والاسلامية وإنّ أهم تلك المبادئ هي الفردانية القانونية وأقول القانونية لتمييزها عن الفردانية الاجتماعية والثقافية، أي أن القانون يتعامل مع الأفراد لا مع الجماعة، والسلطة تُكتَسَب برأي الأفراد عموما لا من خلال إجماع رؤساء القبائل وهذا هو مفهوم الدولة الديموقراطية. 

ثمة أشكال أخرى للدول الحديثة بعضها يبنى على نظرية دينية، لا تخلو من ديموقراطية وإن كانت محدودة ومقيدة فيما بقيت بعض الدول تلتزم بنظام المشيخات أو حكم قبلي ويتجلى ذلك بوضوح في الأنظمة الملكية والأميرية لكنها لكي تواكب التطور السياسي حصرت السلطة السياسية بيد قبيلة واحدة فيما تركت شؤون القضاء إلى القانون الفرداني والإداري إلى التكنوقراط، وتمارس الانتخابات لكن بعضها كدول الخليج العربي ما زالت الشؤون الإدارية محصورة بنظام التعيين والمراسيم الملكية ولم تمارس الانتخابات، مع أنها تلتزم شكل الدولة الحديثة في نظام القضاء والسياسة الخارجية والتكنوقراط المعين تتعيينا من قبل المشايخ والأمراء. في الكثير من الدول الحديثة حتى الديموقراطية منها والليبرالية والدينية يبرز فيها البناء الاجتماعي النسق القرابي واضحا، فالألقاب العائلية والقبلية موجودة على كل حال، ولكن خارج النظام السياسي فيقوم المجتمع بتقييم كل لقب ومكانته الاعتبارية ضمن نطاق التعاملات الاجتماعية، فينتسب أبناء المجتمع إلى العشائر أو الأسر -الكبيرة- التي ينتمون إليها وكل ذلك يجري ضمن نطاق التنظيم الاجتماعي، دون أدنى سماح بالتدخل في السياسة أو القضاء أو الإدارة إلا بوظيفة محددة ضمن النظام الإداري واستبعاد التدخلات القبلية. أي تقوم هذه الدول بفصل أنساق البناء الاجتماعي، دون تداخلها فيعمل النسق السياسي بنظام منسجم مع النسقين الاجتماعي والقرابي 

لكنه غير منقاد لهما.

إذن وجود القبيلة وكيانها لم يكن يوما نقيضا للدولة طالما كان النسق السياسي، هو المهيمن على شؤون إدارة البلاد وسياسات الحكومات الداخلية والخارجية ويعمل باستقلال، بل يشكل وجود النسق القرابي في بعض الأحيان ركنا أساسيا في استقرار الدولة من خلال المحافظة على البناء الاجتماعي والتنظيم، فهناك أدوار اجتماعية لا تتدخل الدولة في رسمها وتحديد مساراتها وإنما تترك للنظام الاجتماعي شؤون إدارتها وتنظيمها، كالعلاقات الاجتماعية والتكافل الاجتماعي وتعزيز الترابط والتماسك الاجتماعي والحفاظ على الهوية الثقافية للمجتمع وغير ذلك من أدوارها.

لكن الأزمة التي تعاني منها بعض الدول ومنها العراق ليست القبيلة إنما القبلية هي الأزمة الحقيقية وهي نقيض الدولة، فالقبيلة هي طريقة في التفكير ترتكز على الإنطلاق من أولوية القبيلة وسيادة رؤسائها وفاعلية قوانينها المعروفة بـ (السنن العشائرية) وما هذه السنن إلا قوانين وضعت في قبالة قوانين الدولة، وإن ما يعرف اليوم بـ (الفصل) العشائري، ما هو إلا نظام قضائي ذو طبيعة تفاوضية وحتى أصل التسمية (الفصل) هو مصطلح قضائي، ومعناه (الحُكْم) مأخوذ من (الفصل بين الناس)، أي الحكم بين الناس لفصل حق كل ذي حق عن الآخر، وتفصيل الحكم الذي يحل المشكلة التي تعقد من أجلها الجلسة القضائية (الفصل). 

فالقبلية إذن هي نظام حكم ظلِّي أو مصغر داخل نظام الحكم الأكبر المتمثل بالدولة، لذلك يصعب على الدولة أن تقوى مع وجود دويلات غير صريحة يمكنها أن تمارس دور القضاء وحتى الحكم بالإعدام خارج إطار المحاكم الرسمية، فلا يمكن حكم أي بلد من خلال دولتين في نفس البلد الواحد، ولا يمكن حكم البلد بقانونين وسلطتين ونظامين وهذه هي الأزمة الحقيقية التي تحظى بدعم الدولة الرسمية لأسباب ليس هذا محلها، لكنها بالمجمل طريقة فاشلة لمحاولة احتواء القبلية، إذا أخذنا الأمر من زاوية حسن النوايا أو طريقة سياسية للاستقواء بالعشائر على الأخذ بمعطيات الواقع. 

فإذا كانت هناك إرادة حقيقية لبناء الدولة فيجب أولا أن يسود قانون واحد فقط وأن يُسنَد إلى العشائر أدوارها الاجتماعية فحسب.