ابراهيم العبادي
تنحاز الناس بطبيعة الحال إلى الانظمة، التي تحقق لها مشاركة فعلية في السلطة وبناء السياسات والاختيار بين البرامج والاتجاهات المتعددة، وتقبل بعض الشعوب بالانظمة الوراثية، خصوصا اذا ما نجحت تلك الانظمة في تحقيق الحد الادنى من الرفاهية الاقتصادية والتنمية البشرية والأمن المجتمعي، وإن تقلصت مساحة المشاركة في السلطة، أو انعدمت أو كانت شكلية
لو أتيح لمعاهد الاستطلاع وقياس الرأي العام ان تسأل العراقيين عن أولوياتهم في صيف هذا العام، لجأت النتائج متطابقة أو متقاربة مع نتائج الاستطلاعات التي أجريت في الأعوام السابقة، فرغم تغير الظروف وتوالي الاحداث المحلية والاقليمية والدولية، لا تزال أولويات العراقيين تترتب بين الأمن والاستقرار، وتحسين مستويات المعيشة وتنمية الاقتصاد، والحصول على الخدمات بمستويات مقبولة، ثم تليها أولويات أخرى متعلقة بالتوجهات الدينية والسياسية والمبادئ الاخلاقية.
تنشط الأحزاب والتيارات السياسية في أوساط الجمهور عادة لتأطير وتنظيم وتحقيق تلك الاولويات، عبر برامج سياسية وتعبوية لنيل ثقة القواعد الانتخابية وتمثيلها وتحقيق مطالبها ببلوغ ناصية السلطة والمشاركة في الحكم.
وتنحاز الناس بطبيعة الحال إلى الانظمة، التي تحقق لها مشاركة فعلية في السلطة وبناء السياسات والاختيار بين البرامج والاتجاهات المتعددة، وتقبل بعض الشعوب بالانظمة الوراثية، خصوصا اذا ما نجحت تلك الانظمة في تحقيق الحد الادنى من الرفاهية الاقتصادية والتنمية البشرية والأمن المجتمعي، وإن تقلصت مساحة المشاركة في السلطة، أو انعدمت أو كانت شكلية، فالهدف الاولي للناس تحقيق الحاجات الاساسية، وتزداد شرعية السلطة كلما حققت انجازات تنموية على الأرض، اذ تعوض شرعية الانجاز أحيانا عن الشرعية القانونية والدستورية، نحن ما زلنا نعيش معارك المفاهيم والنماذج الأكثر جاذبية وملاءمة لظروفنا وثقافة مجتمعاتنا، وتسيطر هذه المجادلات على الأدبيات السياسية، لأن الناس تعزو مشكلاتها دائما إلى أنظمة السياسة وأساليب الحكم والادارة، ونادرا ما تعيب ثقافتها وانماط تفكيرها ومكونات عقلها السياسي، ولذلك تعيش منطقتنا بل والكثير من البلدان خارجها مشكلات السياسة والحكم والتنمية، بنفس قوة المشكلات التي كانت تعيشها قبل مئة عام وأكثر، فما زال بيننا من لا يرى شرعية للحكم الا وفق نماذج الحكم الاسلامية (الدينية)، ويراها وحدها المشروعة والمقبولة التي تحقق الرفاه والعدل والانسجام بين المعتقدات والقيم والاخلاقيات والمواقف والسياسات، ولا يزال البعض يشن هجماته على الانظمة (الدينية)، ويدعو إلى علمنة السلطة بالكامل وتحييد السياسة وادارة الدولة، بعيدا عن الحيز الديني، لانه يراهما مجالين يتوازيان ولا يتقاطعان، ولا يزال فريق ثالث يدعو إلى المزج بين الديمقراطية الغربية في اساليبها والياتها وبين الاجتهادات الفقهية، ليخرج بنظام جمهوري تمثيلي في قاعدته، لكنه محكوم من فوق على طريقة الحكم السلطاني، هذا الجدل يعود إلى سؤال مركزي تاريخي عن اي الانظمة انسب وارجح والأكثر كمالا في القدرة على إدارة الدولة وتحقيق مصالح الناس، والاستجابة لتوجهات الأكثرية، طالما كان تحقيق الاجماع أمرا عسيرا.
عندما تختار أكثرية الناس نموذجا للحكم وتقاسم السلطة وادارة الدولة، لا ينبغي لأي جهة أو فئة أو حزب أو فصيل ان يعمل خارج العقد الاجتماعي والاكثرية الوطنية، فيزاحم السلطات ويهدد الامن والاستقرار ويحبط البرامج والخطط والسياسات بناء على أفكار أو توجهات أو أولويات تتزاحم مع أولويات اكثرية الناس، فالحياة السياسية ليست مفتوحة للتجريب وفرض السياسات بالقوة، وترجيح مصالح واجتهادات، بل إن ضوابط الأمن والاستقرار ومصالح الشعب في اقتصاده وقوته وحقه في العيش الكريم، تبقى أولوية وطنية وهي شرط لازم على من منحهم صوته وزكاهم ووكلهم لتمثيله وإدارة الأمور نيابة عنه.
منذ عام 2018 دخلت بلادنا فخ المزايدة بين مشاريع وأولويات لم تقررها اكثرية الناس، لا وفق منطق الشورى ولا عبر الديمقراطية التمثيلية، مشاريع سياسية تقدم أولويات غير الاولويات التي تحكم برامج الحكومات والسلطات، أولويات البرامج الحكومية هي الامن والاقتصاد ومواجهة التخلف المريع والتأخر الاقتصادي والتنموي وتقديم الخدمات للناس، في كل عام يشهد العراق عشرات الاحتجاجات والتجمعات التي تطالب بالحق في الحصول على الوظائف وتحسين خدمات الكهرباء والماء والنظافة والطافة والتعليم والصحة ومواجهة التحدي المناخي، العراق يزداد سنويا مليون نسمة ويتخرج من جامعاته قرابة النصف مليون سنويا، وتضج شوارعه بعشرات الآلاف من العاطلين، وتواجه قواته الأمنية مشكلات الارهاب والمخدرات وارتفاع مستويات الجريمة، وتقف الحكومات حائرة بين تقسيم الايرادات المحدودة من بيع النفط ومواجهة التكاليف المتصاعدة للرعاية الاجتماعية والدعم الواسع للخدمات شبه المجانية، التي لا تسد تكاليفها وتضطر إلى استنزاف اموال الموازنة في سبيل تقديمها والمحافظة على هدوء الشارع وضمان الحد المقبول من الامن والاستقرار بأمل تجاوز النظام الاقتصادي المتخلف تدريجيا.
لا مناص للعراق إذا أراد الخروج من عنق الزجاجة الاقتصادية، والتخلف التنموي وتردي البنى التحتية ومطالب الشعب المتزايدة، من التوجه الجاد لخلق بيئة جاذبة للاستثمار واجتذاب رؤوس الأموال، وتشجع أصحاب الثروات من العمل داخل البلاد للحد من ريعية الاقتصاد، وتوفير مصادر تمويل جديدة وخلق فرص عمل كبيرة، ذلك يتطلب بيئة امنة واصلاح النظام الاداري والمالي والضريبي، ولا تزال جهود الحكومة في أول الطريق، العراق يصارع نفسه لتحقيق حد ادنى من النمو الاقتصادي المكافيء لنمو عدد السكان، تحتاج البلاد إلى استثمار صافي يبلغ 50 مليار دولار سنويا لتسريع عجلة الاقتصاد وتنويع قاعدته الانتاجية المتخلفة، وسيكون عام 2030 عاما مفصليا عندما يبلغ عدد السكان 50 مليونا وايرادات النفط تراوح مستوياتها، ان لم تنخفض كثيرا.
هذه التحديات تفرض على القوى السياسية أن تعيد النظر في حساباتها، وتدرك حجم المسؤوليات، التي تواجهها قبل أن تطلق شعاراتها وتفتل عضلاتها سعيا للسلطة، لم يعد ممكنا ممارسة الحكم، بعيدا عن أولويات الناس ومصالحهم، خلاف ذلك سيكون انتظار المزيد من الاحتجاجات ومعارك الشوارع وما يتبعها من خراب وتدمير للفرص ومضاعفات أمنية وسياسية واجتماعية خطيرة.