عبد الزهرة محمد الهنداوي
قالوا قديما إن بين الحق والباطل مسافة اربعة اصابع، وهي مقدار المسافة الفاصلة بين العين والأذن، فثمة فرق بين أن تسمع، وبين أن ترى التفاصيل بإم عينيك، وفصّلت العرب كثيرا في هذا الامر، فقالوا: (كفى بالمرء كذبا ان يحدّث بكل ما سمع)، وهو قول منسوب إلى النبي محمد (ص)، وقد يكون بشار بن بُرد الوحيد من العرب الذي خرج عن القاعدة، واتخذ مسارا مختلفا في هذا المجال، فهو القائل:
ياقوم، اذني لبعض الحي عاشقة
والاذن تعشق قبل العين احيانا
ولعل اختلافه من باب انه اراد ايصال رسالة إلى حبيبته (عبدة) التي وردتها ابياته فهشت وبشت عند استلامها الرسالة!..
وعلى الرغم من ان العرب لم يكونوا قد وصلوا إلى مراحل التطور التي نحن عليها اليوم، إلا أنهم كانوا أشدّاء في عدم الانجراف، وراء مسموعاتهم، وعندما يسمعون اي خبر أو شائعة، فانهم لا يسلمون بها الا بعد التثبت من صحتها عيانيا، ولو كان لديهم ما لدينا اليوم، لالقوا القبض على كل من يثير الشائعات ويبث الاخبار الكاذبة، اما عن جهل أو بقصد خلق الفتنة بين صفوف المجتمع.
اما نحن اليوم، فقد اصبح لدينا كل شيء، وامسينا نوثق كل شاردة وواردة في تفاصيل حياتنا اليومية، ونشاهد يوميا الاف المقاطع والصور التي ترصد كل الاشياء، لدرجة ان عليك ان تتحمل كميات التفاهة في تلك الاشياء التي تحاصرك من كل
جانب.
وفي اجواء شفّافة بهذا المستوى من الدقة والوضوح، افترض اننا نكون اكثر حرصا على التمحيص، والتدقيق واقتفاء خيوط الحقيقة، قبل ان نبنى مواقفنا، على ماسمعناه، فاذا كان الذي سمعناه عبارة عن معلومات، فإن محركات البحث المتاحة، يمكنها ان تقدم لك ماتريد حتى تتبين لك الحقيقة، ولو بجانب منها، واذا كانت صورة، فبالامكان ايضا التثبت من صحتها، قبل التسليم بحقيقتها، ووسائل التثبت هي الاخرى كثيرة
ومتاحة.
إن الذي دفعني إلى الخوض في هذا الموضوع، هو وجود منشورات (بوستات)، يتم تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي، وبعضا من مجاميع الواتساب، بين الفينة والفينة، وهي لاعلاقة لها بالواقع، ولكنها في المقابل تثير مخاوف الناس، وتدفعهم لعدم الاطمئنان إلى بعض الاجراءات التي تقوم بها جهات حكومية في الميدان، فقد انتشر مؤخرا منشور يحذّر الناس من وجود اشخاص ينتحلون صفات في (وزارة الشؤون الداخلية) -هكذا ورد في المنشور- وأن هؤلاء الاشخاص يقومون بطرق الأبواب، بحجة اجراء تعداد سكاني، وهم يحملون جهاز (تاب)، ثم بعد ذلك يقومون بسرقة
المنازل!.
ولو دققنا في المنشور لتبين لنا أنه ليس عراقيا، من خلال المفردات والمسميات المستخدمة، ولكنه دخل الينا مثل دخول فيروس كورونا، ثم بعد ذلك انتشر بين الناس انتشارا مرعبا!! جعلهم على ريبة من امرهم، ففي الميدان ثمة فعاليات حكومية خدمية، مثل حملات التلقيح التي تقوم بها وزارة الصحة، وكذلك ماتقوم بها وزارة التخطيط، من مسوح ميدانية واستعدادات تجريبية لاجراء التعداد العام للسكان، وغيرها من الفعاليات، وهذه جميعها تستدعي التعامل مع الاسر، والحركة في الاحياء السكنية راجلين، وبالتأكيد أن أفراد هذه الفرق يكونون معرفين بهوياتهم، وملابسهم، فضلا عن وجود تنسيق مسبق مع الأجهزة الأمنية، والوحدات الإدارية في المناطق، ولكن برغم هذا كله، يقوم الناس بالإبلاغ عن باحث ميداني في إحدى مناطق بغداد، فتقوم الاجهزة الامنية باعتقاله، ولم تشفع له الوثائق الثبوتية التي تؤكد طبيعة مهمته والجهة الحكومية التي يعمل لصالحها! ليستمر احتجازه عدة ساعات، ولم يُخل سبيله الا بعد جهود
مضنية.
ومثل هذا الإجراء، ربما يُحسب لصالح المواطنين والأجهزة الامنية، التي تبذل جهودا كبيرة لضبط الامن وتحقيق الأمان المجتمعي، ولكن ايضا ينبغي التثبت من الامر قبل اتخاذ أي اجراء، قد يربك المشهد في ما بعد.