الصحافة العراقيَّة في عيدها الـ {155}

آراء 2024/06/30
...

عادل الجبوري

احتفت الأسرة الصحفية العراقية قبل أيام بعيد الصحافة العراقية المئة وخمسة وخمسين، وهو اليوم الذي صدر فيه العدد الاول من صحيفة (الزوراء)، وتحديدا في الخامس عشر من شهر حزيران- يونيو من عام 1869.
 وبقدر ما ينطوي استذكار ذلك الحدث التأريخي، وجعله مناسبة وطنية ذات دلالات ومعان عميقة، على اهمية قصوى، فإن المرور على مختلف المراحل والمحطات والمنعطفات، التي مرت بها الصحافة العراقية طيلة هذه الفترة الزمنية الطويلة.
وتشخيص مواطن القوة والضعف، وطبيعة التحديات التي واجهتها مهنة "المتاعب"، يمكن أن يساهم في بلورة تصورات وتقييمات موضوعية بعيدة عن الانفعالات العاطفية، والنظرة الجزئية لبعض جوانب الصورة دون الجوانب
الاخرى.
واذا كانت الصحافة العراقية، قد سجلت حضورا فاعلا ومؤثرا خلال حقبة الحكم الملكي(1921-1958)، ارتباطا بطبيعة الاوضاع والظروف السياسية والاجتماعية في البلد، والهامش الواضح والملموس من الحرية والديمقراطية، فإنها في المراحل والحقب اللاحقة، لاسيما خلال فترة الحكم البعثي(1968- 2003)، تراجعت كثيرا من حيث التأثير والحضور، لانها فقدت صفتها كـ"سلطة رابعة"، مهمتها تشخيص وتحديد مكامن الضعف والخلل والفساد والانحراف، وباتت اداة من ادوات النظام الديكتاتوري الاستبدادي، ولم يكن دورها يتعدى تلميع صورة النظام وحاكم النظام، وتضليل وخداع الرأي العام عبر تزييف وقلب الحقائق  والوقائع.
 وكان ذلك امر طبيعي-دون ان يعني انه صحيح-في ظل سطوة واستبداد النظام الحاكم، وفي ظل المنهجيات والسياسات العدوانية داخل حدود الوطن وخارجه، وانحسار وتلاشي مساحات الحريات السياسية العامة والشخصية، والغياب الكامل لكل مظاهر الديمقراطية.
 بيد انه بعد التاسع من نيسان- ابريل من عام 2003، بدا أن كل شيء قد تبدل، أو أنه متجه سريعا إلى التبدل. ولعل المشهد الاعلامي العام كان جزءا محوريا من المشهد العام، حيث انفتحت افاق العمل الاعلامي الحقيقي، بعد عقود من الكبت والتعتيم والارهاب والترويع.
 وبفضل الاتساع المتسارع لثورة المعلومات والاتصالات، إلى جانب زوال النظام الديكتاتوري، شهد العراق تناميا وتطورا واضحا على الصعيدين النوعي والكمي، فقد ظهرت عشرات الصحف والمطبوعات، والقنوات التلفزيونية الفضائية، والمحطات الاذاعية، ووكالات الأنباء، ومنصات التحليل والرأي، التي عبرت عن مختلف التوجهات والمواقف السياسية، وساهمت في توسيع مساحات حرية التعبير، والوعي السياسي والمجتمعي، والانفتاح على العالم الخارجي.
 وفي مرحلة لاحقة، جاءت شبكات التواصل الاجتماعي، لتمثل رافدا اعلاميا جديدا، يقوم على نقل وتبادل المعلومات بصورة مختصرة وسريعة، ويتيح لمختلف الفئات والشرائح الاجتماعية الاطلاع على الكثير من الخفايا والحقائق والاسرار، فضلا عن المساهمة الفاعلة في صناعة الحدث
وتسويقه.
ولا شك أن تلك التحولات والمتغيرات السريعة، تسببت في تراجع الصحافة التقليدية-الورقية-وفي غياب قدر كبير من معايير وضوابط واخلاقيات العمل الاعلامي الصحفي، وفي طغيان الكمّ على حساب النوع.
 ولعله لا يجانب الواقع من يصف المشهد الاعلامي الحالي في بعض جوانبه وابعاده بـ"الفوضوي"، وبعبارة اكثر وضوحا وتحديدا، ان محاسن الديمقراطية والحرية، التي انعكست على كل المجالات والميادين، ومنها الميدان الاعلامي، رافقتها مساوئ وسلبيات ربما كانت غير  قليلة.
بيد انه في كل الاحوال طغت وهيمنت الايجابات على السلبيات، لا سيما مع وجود مؤسسات اعلامية مقروءة ومرئية ومسموعة والكترونية تمتاز بالمهنية والحرفية والمسؤولية في مجمل عملها، وبما يسهم في تكريس وترسيخ مبدأ اهمية وجود "السلطة الرابعة"، لتعضيد وتقوية منظومة القيم والممارسات والسلوكيات الديمقراطية لدى الفرد والدولة والسلطة والمجتمع.
وهنا فإنه لا بد من الفصل والتمييز والفرز بين الاعلام الحقيقي بمؤسساته وشخوصه وطبيعة اطروحاته وتناوله لمختلف القضايا السياسية والمجتمعية من جانب، والصخب والتهريج "الاعلامي" البعيد عن مبادئ واخلاقيات المهنة، والبعيد كذلك عن الحرص على المصالح الوطنية من جانب آخر.  وطبيعي ان هذه المهمة تقع على عاتق جهات مختلفة، من بينها مجلس النواب العراقي، عبر لجانه المعنية بالجانب الإعلامي، وهيئة الاعلام والاتصالات، وشبكة الإعلام العراقي، ونقابة الصحافيين العراقيين، والمؤسسات الاكاديمية (كليات واقسام الاعلام)، اضافة إلى الكوادر الصحفية والاعلامية الحقيقية، التي تقدر جميعها اهمية وضرورة الحفاظ على المسارات الصحيحة لمنظومات العمل الاعلامي، وتجنب زجها ودفعها إلى مساحات تسطيح الوعي والتفاهة والابتذال، واجواء التسقيط والتشهير والاعتياش على الفضائح.  وينبغي استثمار مناخات الحرية والديمقراطية في تأصيل وترسيخ ما هو صائب وصحيح، لا استغلالها لفرض وترويج ما هو خاطيء وسخيف، وكذلك ينبغي ان لا يكون عيد الصحافة العراقية، مجرد مناسبة نستذكر فيها الماضي، دون ان نتوقف عند تجارب الحاضر، ودون ان نحدد ونرسم خارطة طريق المستقبل. فهناك من المكاسب والانجازات الشيء الكثير، وهناك من الاستحقاقات والتحديات الشيء الكثيرايضا.