بهاء زهير أحمد القيسي*
تدفعني العديد من الأمثال والتوصيفات في شمولية المغزى والمعنى، التي يستخدم بها لفظ الأنف في تراثنا الشعبي وأحاديثنا اليومية كتعبير عن حال معين إلى التوقف عندها.
فاسم "الخشم" الذي يطلق على الأنف في حديثنا الدارج هو من صحيح وفصيح اللغة العربية وليس من أعجميتها أو عاميتها، وفي معجم المنجد نجد أن تفسير مفردة "خشم" هي [مفرد]: ج خُشُوم (لغير المصدر): مصدر خشَمَ.
أنف "ضربه على وجهه حتَّى سال الدَّمُ من خَشْمه". كسَر خَشْمَه: حطّ من كبريائه فأذَلّه وأخزاه وجعله يخجل. يَخشِم، خَشْمًا، فهو خاشِم، والمفعول مَخْشوم. خشَم خصمَه: كسَر خيشومَه (أنفه). وقد ذكر الأنف في القرآن الكريم في موضع واحد، حيث قال تعالى: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ". (المائدة: 45). وذكر الأنف أيضا في "الكتاب المقدس" العهد الجديد: "هؤلاء دخان في أنفى نار متقدة كل النهار (إش 65: 5)، معناها أنهم سبب إزعاج دائم وغضب مستمر. ولقد كان من العادات المتبعة في الحرب أن يقوم المنتصرون بجدع أنوف الأسرى وصلم أذانهم (حز 23: 25). كما أن الحيوان المتوحش يمكن كبح جماحه بثقب أنفه ووضع خزامة فيها (أيوب 40:24؛ 41:2).
سومرياً، وكما هو الأصل في كل شيء في عراقيتنا فأن: الخشم (كيرا kiri) وكما يسمى في اللغة السومرية والذي كان يمثل الهوية العراقية المتميزة عن باقي الأمم، بأنهم أصحاب الشكل الأمثل بلون البشرة، وشكل الأنف يميل إلى الكبر أحياناً. والسبب لأنهم يقعون في متوسط الجهات من الأرض، بمعنى أنهم ليسوا من الشماليين البيض "البُرش من ذوي الأعين الزرقاء"، الذين يتّصفون بالحزن، نتيجة هوائهم البارد، وكثرة ثلوجهم، ولا هم من الجنوبيين، "السود من ذوي الطباع الطائشة الفَرِحة" نتيجة هوائهم الحار وكثرة رطوبته.
ويمكن ملاحظة سمة الأنف في الكثير من الأعمال النحتية في الفن السومري، مثل التماثيل المجسمة والمشاهد التي حملتها الأختام الأسطوانية، حيث تميز الأنف الظاهر في أشكال الأشخاص بوضوح مثل علامة فارقة لهم من دون بقية الشعوب التي جاورته.
وقد سجلت مفردة "الخشم" حضور قوي في إيجازها لتجربة كبيرة في تعبيراتنا اليومية المستعملة لبيان سلوك اجتماعي معين، ففي خزيننا الغني من الأمثال الشعبية نجد قولهم مثلاً "أضرب الخشم تخر العين" بقصد الترابط بين الأشياء سواء كانت مادية أو معنوية، وكذلك "شايل خشمة"، التي تقال في وصف من جعل التكبر صفة شخصية له وتعالى على الناس، وأيضا "طلعها من خشمي" بمعنى لم يدعني أن اهنئ بما لدي، في قولهم "لا تحشر خشمك" يعني لا تتدخل بما ليس لك فيه.
وذكر أيضاً أن من "حك خشمه" فأنه سوف يتناول طعام السمك في ذلك اليوم، أما أسم أشهر الأماكن في العراق التي حملت هذه المفردة هي منطقة "أم خشم" والتي تقع في جنوب محافظة النجف الأشرف. وتعتبر هذه البقعة من الحواضر المسيحية الكبرى التي كانت موجودة سابقاً والباقية من مملكة الحيرة القديمة حالياً. وتبلغ مساحتها 1415 دونماً، ويقدر عمرها الزمني 1800 سنة، وتوجد فيها مدافن أثرية وإطلال بنائية مهمة تؤرخ للمنطقة والى الأقوام والديانات المتعاقبة التي قطنتها ومدى عمقها ومكانتها في التاريخ السياسي والمدني للبلاد. وفي الأدب.. تعد قصة "بينوكيو" الدمية المصنوعة من خشب الصنوبر الشخصية الخيالية المُستمدة من رواية كتبها الإيطالي كارلو كولودي عام 1880، كان الأنف محور الجدل فيها، وتدور أحداثها حول الصبي الدمية الحية، الذي يطول أنفه عقاب له كل ما تحدث به كذباً.
الرواية التي ترجمت لغات كثيرة، لقصّتها كانت محاولة للكشف عن صعوبات التكيّف مع الواقع الجديد المتغيّر بشكل متسارع في إيطاليا نهايات القرن الثامن عشر، وهي الحقبة الّتي شَهِدَت تغيّرات اقتصاديّة وسياسيّة أعادت تشكيل كلّ من العمل والتعليم، وكان يفترض بالناس أن يصبحوا جزءًا من هذا الاقتصاد الجدي.
وتقول البحوث أنه عندما يكذب الشخص فإنه يعاني من "تأثير بينوكيو"، وهو زيادة في درجة الحرارة حول الأنف وفي العضلة المدارية في الزاوية الداخلية للعين. وكذلك عندما نبذل مجهودًا ذهنيًا كبيرًا، تنخفض درجة حرارة وجهنا وعندما نشعر بالقلق، ترتفع درجة حرارته. يمكننا الآن أن نفهم دور هذه المفردة البسيطة المستعملة بحياتنا ومدى عمقها في تشكيل المفاهيم الإدراكية للتجربة الإنسانية في الحضارة.
*(كاتب ومنقب آثار)