حسن كزار
على الشاشة التلفزيونيّة اشاهدُ مؤتمرَ البحر الميّت الذي عُقد لوقف الحرب على فلسطين العربيّة، في يوم الثلاثاء 11 - 6 - 2024، من أجلِ وَقفِ المجازر الهمجيّة التي يقومُ بها الكيان الصهيوني، وهذا المؤتمرُ ليس الأول على الصعيد العالمي برعاية الامم المتحدة، وفي كلِّ مرة ٍ يكون المجتمعون فيه حاضرين في عيدِ الأقوال وصومِ الأفعال، والساحةُ مملوءةٌ بالقتلِ والابادةِ اليومية، والجميع – ونحن منهم- نتلو أو نسمعُ اخباراً أو حصيلة قتل أو استنكارا، ولا شيء غير هذا، إنَّنا نقلدُ ببشاعةٍ ما يفعلُه الرؤساء العرب وزعماء العالم الذين وأدَوا الانسانية في مقبرة الكلمات، ولا ضيرَ عندنا طالما أنَّ العالم أجمعه – الغرب والعرب- قد امتهن الكلام إزاء أخطرِ القضايا، اننا نقول بصوت واضح هناك إبادة كاملة لأمّةٍ كاملة، اعتقد ان الكلمة مكررة في كثير من المحافل الكونيّة.
وفي خضم هذا المؤتمر- مثل كل مرة الوظيفة الكلاميّة حاضرةٌ- يقرأ الزعماء العرب كلمات من ابجدية واحدة، انها تسمى (اذا تكلمت فهذا يكفي)، إنّك قدّمت شيئا جليلاً إلى مجموعة من الناس يقتلون هناك، إنَّ كلماتهم تعيش الاحكام المؤبدة في اروقة الاجتماعات والمؤتمرات.
قُدّمت الخطابات باللغة العربية لأنَّ العرب هم المتكلمون، ولأنهم عربٌ أيضا، ويدافعون عن الحقوق العربيّة، وهذا يكفي- فيما اعتقد- ان يقولوا كلماتهم باللغة العربية، وكلُّهم قد فعلَ ذلك كإعلانٍ لما تقدّم، طالما أنَّ الاجتماع هو اجتماع الهويات المعبرة في هذا التعدد العالمي، وهذا هو السمت الدائر في كل مسارات تمثيل الحكام والزعماء والقادة لهوية بلدانها وشعوبها، انهم يمثلون تاريخهم وهويتهم ووجودهم، وكلُّ هذا يتمّ- بحسب الأنساق العلمية والاجتماعية والتاريخيّة - عبر اللغة، حتى إذا جاء دور أحد الرؤساء العرب فقدّم كلمته باللغة الانجليزية، والذي رأيته انه يفعل هذا في كل خطاب دّوليّ فيقرأ كلمته باللغة الانكليزيّة، ولا اعرف لماذا يدافع عن الفلسطينين، ولا أرى من حاجة لذكر اسمه هنا، احتراماً للهوية وإعزازاً للغة حفظها الله.
ولنا أن نتساءل – مختصين أو غير مختصين- لماذا يُقدّم زعيم عربيّ صورته وهويته ونفسه عبر عدسة غيره وثقافة مُخالِفهِ، وهنا نحتمل ما يأتي :إمّا أنَّه يثبتُ ولائهُ لمَن يحب، أو أنَّه يترفع عن هويته، أو يضمر الاثنين معاً – وهذا ما ارجحه- أو أنَّه لا يجيد استعمال اللغة العربيّة، تأمل معي هذا: القنواتُ العربيّة تنقلُ وقائع المؤتمر وتترجم كلمة الزعيم العربي إلى العربيّة، كي تتطلع الشعوب العربية على دفاع هذا الرئيس العربي عن فلسطين وشهدائها، إنّه لحزن طويل يمتد من بيت الله( الكعبة) إلى بيت الله (القدس).
ولا يأتي في خاطر أحدنا أنَّه يساير الاجواء العالمية، ويريدُ أن يُسمع العالم صوتَ العربِ، فالمقامُ مقاماتُ هوياتٍ تعيشُ خصاماً حاداً، وهدفُها الدفاع عن حقوق الهويّة المسلوبة، واهلها الذين أصبحوا مادة اخبارية مستمرة – مضى الان أكثر من تسعة اشهر من القتل والتشريد هناك- لكلِّ الصحف والقنوات العربية والعالمية، ويقينًا أنَّ التعاطف العالمي اكثر وجوداً وصدقاً من التعاطف العربيّ، ولنا في مظاهرات الجامعات الاوربية والامريكية مثالٌ حاضرٌ.
هذا الصنيعُ يُذكّرنا بما قامَ به (فرحات عباس) أحد السياسيين البارزين الجزائريين، وقد تولى رئاسة الحكومة الانتقالية في سنة 1958، كتب في مقالة له بعنوان ( فرنسا هي أنا) في سنة 1936، طالَبَ فيه ان يرتبطَ مستقبلُ الجزائر بمستقبلِ فرنسا، وأنّه بحث عن الأمّة الجزائرية ولم يجدها حتى في المقابر، فهو في حنين دائم إلى العبودية الفرنسيّة، ومع ما قدّمه في مواقفه ومقالاته لم يزده الا صغارا في عيون الزعماء الفرنسيين الذي كانوا اكثر إخلاصا لوطنهم وهويتهم ولغتهم، وهذا ما جاء على لسان أحدهم، وهو زعيمُ فرنسا الحرة في المنفى (شارل ديغول)، عندما سُئل ديغول لماذا لا تحترمُ فرحات ؟
قال ديغول: هناك ثلاث نقاطٍ بيننا تجعل الفرق شاسعاً، لم اتزوج عدوّة المانية، ولم اخاطب شعبي بلغة عدوّي الالمانية، ولم ابحث عن هويتي الوطنيّة في المقابر، وهذا يعني ان فرحات تزوج من امرأة فرنسيّة، ويتكلم باللغة الفرنسيّة، ويسأل المقابر عن هويته فلم يجدها، بحسب ما جاء في مقاله.
لا أعرف كيف نبحث عن الهوية وحقوقها؟
ونحن نحملُ جوازَ سفرِ فقدانها والتخلي عنها، إنَّها لقسمة ضيزى.