ثقافتنا وسؤال النزعة الإنسانيَّة

آراء 2024/07/04
...

 د. عدي حسن مزعل

أعتقد أن الإجابة واضحة، فالثقافة العامة السائدة في مجتمعاتنا ما زالت تعيش هاجسا الــ (نحن) و (وهم)، وهي مشحونة بقدر هائل من الكراهية والتمييز على أساس الدين والعرق واللون، كما أنها ثقافة اختزالية ثأرية ستجد الحل سريعاً في عبارات من قبيل (اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا منهم سالمين)، أو (نارهم تأكل حطبهم). وينبغي التذكير بأن المحتجين والمتضامنين معظمهم غربيون ذوو خلفية مسيحية أو غير مسيحية وحتى يهودية
من علامات حيوية الشعوب ونضجها، تضامنها ووقوفها إلى جانب شعوب وجماعات أخرى حينما تتعرض للظلم والاضطهاد. وفي هذا السياق تبدو الاحتجاجات الطلابية، ومواقف أفراد وشخصيات مؤثرة في بعض المجتمعات الغربية، من حرب الإبادة الجارية في غزة، علامة على موقف إنساني يتعدى الحدود الجغرافية ويقرب الشعوب بعضها إلى بعض.
 إن الاحتجاجات الطلابية والمواقف الفردية في الغرب، تطرح سؤالاً أخلاقياً كبيراً على مجتمعاتنا، فهي إذ تصدم الطبقة السياسية في الغرب، وخاصة في أمريكا، تصدم بالمثل العرب والمسلمين أيضاً.
والسؤال: إذا كانت تلك الاحتجاجات المطالبة بوقف الإبادة، وسحب الجامعات لاستثماراتها من الشركات الداعمة للكيان، تعبر عن موقف إنساني رفيع ينتصر للعدالة والحرية والسلام للبشر كل البشر من غير تمييز، فهل سنرى هكذا مواقف مستقبلاً في جامعاتنا ومن نخبنا الثقافية والإعلامية إذا ما وقع ظلم على شعب أو جماعة من الغربيين؟
أقصد هل سيعتصم طلابنا وأساتذتنا ويتحرك الرأي العام في مجتمعاتنا لمناصرة هذه الجماعة أو الدولة التي تتعرض لظلم واضطهاد؟
أعتقد أن الإجابة واضحة، فالثقافة العامة السائدة في مجتمعاتنا ما زالت تعيش هاجسا الــ (نحن) و (وهم)، وهي مشحونة بقدر هائل من الكراهية والتمييز على أساس الدين والعرق واللون، كما أنها ثقافة اختزالية ثأرية ستجد الحل سريعاً في عبارات من قبيل (اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا منهم سالمين)، أو (نارهم تأكل حطبهم).
وينبغي التذكير بأن المحتجين والمتضامنين معظمهم غربيون ذوو خلفية مسيحية أو غير مسيحية وحتى يهودية، فلماذا نتعاطف ونثني على احتجاجاتهم، ونعدها لحظة فارقة، وحدث مهم له أثره في الوعي الغربي من القضية الفلسطينية، في حين نكتفي بالتشفي والسخرية حين يتعرض من هم خارج ملتنا إلى ظلم واعتداء؟
 في الغرب توجد أمثلة كثيرة على مفكرين وكتاب كانت لهم مواقف إنسانية بارزة مع الغير، مع شعوب دول أخرى وضد سياسات بلدانهم، أمثال المستشرق الإنجليزي إدوارد براون الذي ناضل من أجل استقلال فارس وحريتها من نفوذ بلاده، والمستشرق الإيطالي ليون كايتاني الذي عارض احتلال ليبيا ما جعله مدعاة للسخرية في إيطاليا، كما يذكر أحد الباحثين.
والحال كذلك مع مواقف مفكرين معاصرين أكثر شهرة كــ المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي وطروحاته النقدية الجذرية إزاء سياسات بلده (الإدارة الأمريكية)، أو الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر ومواقفه العديدة، منها معارضة حرب فيتنام وتأييده للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وخاصة موقفه الأخير، إذ انحاز إلى هذه الثورة ضد سلطات بلده، وشجع كل من يساندها، وشارك في تظاهرات عدة داعمة لها.
 تعّبر مجمل هذه المواقف عن تجاوز أصحابها الأطر الضيقة للهوية القومية أو الدينية، أي اتخاذ مواقف تتعدى سلطة هوية البلد الذي ينتمون إليه صوب هوية كونية إنسانية تؤمن بأن العدالة والحرية والكرامة حق طبيعي لكل البشر وليست حكراً على فئة دون غيرها.
لذلك تبدو النزعة الإنسانية، بالمعنى الذي طورته مدارس فلسفية مثل (الكلبية والرواقية)، وتيارات دينية، وشخصيات فكرية، حيث البشر أخوة لهم حقوق متساوية ولا فرق بينهم، وينتسبون إلى مجتمع إنساني واحد، مرحلة بعيدة المنال عن الكثير من أفراد مجتمعنا، وهي حقاً مرحلة بحاجة إلى تثقيف وتربية ونشر دائم للوعي ذي البعد الإنساني..... باختصار أن الثقافة الإنسانية إنما هي نتاج تراكم تاريخي طويل، نتاج تشريعات وقوانين تؤمن بالعدالة والمساواة وبالإنسان بوصفه القيمة العليا في هذا الكون.
وهكذا، فالمشكل أن ثقافتنا غُيب البعد الإنساني فيها، إذ جمدت في حدود عصور سالفة، ولم تواكب الحداثة والتحولات التي شهدها العالم منذ زمن، حيث الاحتفاء بالإنسان، وتقبل الآخر، ونبذ التعصب والتمييز وكل ما من شأنه تحويل الحياة إلى دار حرب وصراع.
ولو أنسنت ثقافتنا وبث الوعي بها في المدارس والجامعات، وفي شتى المؤسسات الفاعلة والمؤثرة في المجتمع: صحافة، تلفاز، راديو..... الخ، ربما سنلمس تغيراً ملحوظاً في حياتنا وعلاقاتنا في ما بيننا أولاً، ومع الغير ثانياً، ذلك الذي لا يشبهنا دين ولغة وعرق، ولكنه يلتقي معنا في الإنسانية، وسنحقق السلام والعدالة والازدهار من غير الحاجة إلى القوة والقسر والإكراه.
 فالثقافة أداة أساسية في التغيير الاجتماعي، ولاعب لا غنى عنه لدى كل من يسعى إلى تحقيق التغيير، ولذلك تسعى الأحزاب والقوى للسيطرة على مواقع إنتاج الثقافة وترويج مشاريعها من خلالها، فمن غير تهيئة الأذهان، والسعي إلى تجديد ثقافي شامل يأخذ بالمنجزات التي حققتها البشرية عبر كفاحها الطويل لتحقيق الحرية والعدالة والمساواة، لا يمكن أن نشهد تحولاً على صعيد السلوك والموقف.
 والموقف الإنساني أكان فردياً أم جماعياً يقتضي بالضرورة أن يسبقه فكر يمهد لتجسيده على أرض الواقع.
وذلك ما لم نحققه حتى الآن على صعيد الوعي الجمعي.
في حين أن تلك إحدى المهام الثقافية التي إذا ما أنجزت، فلن نحتاج لتضامن الغير، وتعاطفه معنا في قضايانا وأزماتنا، بل سنكون نحن من يتضامن مع الغير، ويجهر بصوته عالياً من أجل رفع الظلم وتحقيق العدل للمظلومين والمهمشين في شتى بقاع العالم. وحين نحقق ذلك يكون سؤال غياب النزعة الإنسانية في ثقافتنا قد أصبح جزءا من التاريخ نستعيده على سبيل المعرفة والفهم لا أكثر.