في معنى ألّا نكون

آراء 2024/07/08
...

رعد أطياف

لم تسهم الأحداث الأخيرة بالتقليل من إعجابنا بالحداثة الأوروبية، ولا بدهشتنا ونحن نقف مشدوهين بقوة التقنية المهولة، كما لم تسهم بالتقليل من عزمنا المتدفق إزاء النظر والتدقيق والتعلم من نظمها السياسية المحلية ومؤسساتها الشامخة ومجتمعاتها المدنية والتوق المركوز لدى معظمنا للعيش هناك، وما زلنا ننهل من هذا المعين الحداثي محاولين استخراج إمكاننا الخاص.

وإنما شكلت لنا الأحداث الأخيرة خيبة أمل وصدمة كبيرتين بخصوص مقولة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان بوصفها مقولة كونية! بدا الكثير منا بأقصى درجات الارتياب لما يشاهده في العيان، وليس في تصورات شبحية مغرقة في التجريد عن ماذا تعني أن تكون في هذه المنطقة المغضوب عليها.
ثمة فارق جليّ بين أن تكون موضوعاً للتفكير، وبين أن تكون جزء من هذا العالم؛ في الأولى تغدو صورة منطقية لا تتعدى حدود الذهن، في حين تكون في الثانية»وجود-في-العالم» بتعبير هيدغر، بمعنى ألا يكون بينك وبين العالم تقابل منطقي، بل يكون وجودك في هذا العالم كما يوجد العضو في الجسد.
يتيبن لنا، أن السياسة الخارجية الغربية حولتنا إلى موضوع للتفكير فحسب؛ تصورات منطقية ليس لها حضور حقيقي في الحياة، ولذلك نسمع عن عبارة «حقوق الإنسان»، وهذا الأخير يعني، كما يبدو، الإنسان الغربي الذي يحق له أن يكون جزء من العالم، ويعيش الحياة ولا يحياها فقط كما تعيشها باقي الكائنات، أمّا الإنسان الموجود في مشرقنا العربي لا يحق له عيش الحياة وإنما يحياها فقط، ومن ثم يتحول إلى موضوع جامد تغادره حياة الوعي وإنتاج المعنى والبحق عن وجوده الخاص.
 يعني ما يعنيه ان تكون استثناء من كل فضيلة عالمية، وإنما نقطة صغيرة تبحث لها عن هامش ولا تعثر عليه. لا يحق لك أن تعيد النظر في ماهيتك والخروج من حدودها الضيّقة، بل الوحش العسكري الفتّاك هو من يلبسك الماهية التي يريد، فلا يحق لك خلق وجودك الخاصة.
بدت المفاضلة واضحة جلية لا لبس فيها، وهي أن معيار»الإنسان» يعاني من ثلمة خطيرة تنقسم سياسيا إلى «إنسان شرق أوسطي غامض الماهية»! بلا أفق أو استشراف، وإنسان غربي يمثل الوجود الأصيل.
 وبما أن الشرق أوسطي غامض الماهية فيصلح أن يكون موضوعاً مثالياً لتجاربنا المميتة، ذلك أن قتل أكثر من ثلاثين الف فلسطيني، مثلاً، لا يندرج في عداد حقوق الانسان ووجوب المساءلة القانونية عن هذه لإبادة المروعة، وانما يندرج في خانة الاسف والخلل والدعوة المستمرة لوقف الحرب، أو على الاقل حماية المدنيين.
 هذا ما صدع بها رؤسنا الحلفاء الغربيون منذ اليوم الاول للارهاب الصهيوني على الفلسطينيين، ولم توقف هذه الدعوات رصاصة واحدة للإرهاب بل تضاعفت الفجيعة على نحو ملحوظ، لدرجة بتنا نرتاب من هذه الدعوات التي يطلقها المجتمع الدولي بين الحين والاخر، كما لو انها فأل سيء على الضحايا، أو دعوة مبطنة لاستئناف الذبح والممنهج.
كما لو أن هذه المذبحة الممنهجة تطبيق حرفي لمعنى أن تكون بلا أفق، بلا وجود، بلا عالم؛ أن تكون كما الصخرة أو الشجرة، الصحرة بلا عالم، الشجرة بلا عالم، وحده الإنسان من يخلق عالمه الخاص.
قال فتحي المسكيني «لقد انتصبت إنسانيّة غير مسبوقة سمّت نفسها «الغرب»- استعارة جغرافية مسلّحة- دفعت بنموذج الدولة إلى أقصى مهجته: لقد تحوّل الغرب إلى دولة آكلة للدول، ومن ثمّ لأجسام الشعوب «غير الغربية» أو التي توجد «تحت خط» الغرب. ولأنّ الغرب مجرّد استعارة جغرافية فهو قد استولى على ماهية الاستعارة؛ وأفرغ النوع الإنساني من أيّ حرمة لا يمكن سرقتها».