تقويم أم مصيدة أخطاء!

ثقافة 2019/06/13
...

محمّد صابر عبيد  
 
 
 
تحتشد المؤسسة الأكاديميّة العراقيّة بالكثير من الأعراف والقيم التي يمكن أن تؤسّس الهُويّة الأكاديميّة المميّزة لها بعامّة وفي كلّ جامعة من جامعاتها بخاصّة، ومن دون تأسيس مثل هذه التقاليد التي تميّز جامعة عن أخرى على صعيد التنافس المعرفيّ صعوداً في السلّم الأكاديميّ نحو الأعلى، فإنّ الصفة الأكاديميّة تُنزَعُ من هذه الجامعات وتتحوّل إلى مدارس كبيرة بلا شخصيّة أكاديميّة بالغة الضرورة وبلا هُويّة تزوّدها بالقدرة على دخول النادي الأكاديميّ بكفاءة وحضور وتميّز، غير أنّ هذا الحلم المشروع للأسف تناهبته الفؤوس المسمومة منذ سنوات كثيرة خلت حتى الآن وحوّلته إلى شظايا حلم تتناثر على أرض جامعاتنا هنا وهناك بلا أمل، وصارت الأكاديميّة العراقيّة كيانات مدرسيّة تخلو تماماً من أدوات المنافسة على احتلال مواقع متقدّمة بين الجامعات العالميّة، بله الجامعات الأقليميّة والعربيّة.
 
توزيع المغانم
المناقشات العلميّة لرسائل الماجستير والدكتوراه من أهمّ النشاطات العلميّة في مرحلة الدراسات العليا ولها مساس أصيل بجوهر الفكر الأكاديميّ على صعيد النظريّة والممارسة، وينبغي أن تحاط بالكثير من العناية بوصفها إحدى أبرز الحلقات التي يتمّ فيها منح الطلبة أرفع التخصّصات العلميّة في مجالات الاختصاص المتنوّعة، لذا من الواجب تعريف كلّ مفردات الأكاديميّة بقوّة ووضوح حتى لا تلتبس الأمور على نحوٍ يسمح لأنصاف الكفاءات العلميّة تقديم أنفسهم بوصفهم ذوي كفاءات عالية، وفي مقدّمة ما يجب تعريفه في هذا الإطار هو التوصيف العلميّ الرصين للمناقشة الأكاديميّة في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، إذ يؤخذ بنظر الاعتبار أولاً التخصّص العلميّ الدقيق مضافاً إليه الدرجة العلميّة المناسبة فضلاً عن الخبرة المشهود لها والمقترنة بسمعة أكاديميّة لا خلاف عليها. لو ألقينا نظرة منصفة على ما يجري في حقل المناقشات العلميّة سنجد أنّ آليّة توزيع المغانم هي الآليّة الأكثر حضوراً في وضع لجان المناقشة، مع انعدام التحقّق السليم من صلاحيّة المناقش أو المشرف على نحوٍ يقود إلى استسهال المهمّة وعدم العناية بقيمة المناقشة، ومن ثمّ التفريط بالشخصيّة الأكاديميّة التي تبدو على منصّة المناقشة وكأنّها لا علاقة لها بالموضوع تماماً، فضلاً عمّا يتبدّى من علامات الغرور والوهم التي تحطّ على عقول بعض المناقشين حين يجدون المناقشة فرصة لاكتساب أهميّة لدى الآخر لا أساس علمياً لها، فضلاً عن المجاملات الشخصيّة وتبادل المظلات وقد حطّت كثيراً من قيمة المناقشة العلميّة وقدسيّتها وصارت المناقشة فيها أقرب إلى العرض المسرحيّ التمثيليّ.
لا بدّ من حضور الوعي الأكاديميّ المهنيّ في فضاء المناقشة وإدراك القيمة العلميّة والاعتباريّة والأخلاقيّة لها، ولا بدّ للأستاذ المناقش أن يعكس شخصيّته الأكاديميّة القائمة أساساً على ما يمكن أن نصطلح عليه (ثقافة المناقشة)، وهي تقود إلى النتيجة الحقيقيّة للرسالة أو الأطروحة لا نتيجة مزيّفة بسبب جهل المناقش بفلسفة المناقشة وبموضوع الرسالة أو الأطروحة على نحو دقيق وتفصيليّ، وفي خطورة النتيجة التي ستؤول إليها المناقشة عندما تتحكّم عوامل غير علميّة في وضع تقدير لا يتناسب مع مستوى الطالب وعمله.
 
الاستاذ المقاول
تعدّ ظاهرة الأستاذ الجامعيّ المقاوِل في هذا الحقل من أسوأ ما عرفته الأكاديميّة العراقيّة في السنوات الأخيرة من انحطاط وتردٍّ، فهذا الأستاذ يناقش في كلّ تخصّص من شرق المعرفة إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها ومن أعلاها إلى أسفلها، ومثل هذا المقاوِل لا وقت لديه لقراءة العمل الأكاديميّ أو لا يقرأ المادة العلميّة التي قامت عليها الدراسة مكتفياً بما ألهمه الله من علمٍ رصينٍ لا يحتاج فيه إلى اطلاع جديد (وبعضهم من الوقاحة للأسف بحيث يصرّح بذلك على رؤوس الأشهاد). 
للمناقش دورٌ أصيلٌ في غاية الأهميّة يعدّ مكمّلاً  لدور المشرف وليس نقيضاً له أو عدوّاً شرساً يتربّص به وبطالبه، لأنّ أطراف الرسالة هي حتماً: الطالب والمشرف والمناقش، يتفاعل أحدهما مع الآخر وصولاً إلى حالة نموذجيّة تبلغ الدراسة فيها أرفع وضع علميّ ممكن، هي في شكلها ومضمونها تمثّل علاقة تكامل وتعاضد تصبّ في مصلحة بناء الطالب وإيصال العمل العلميّ إلى المستوى الأكاديميّ المناسب، وأنّ أيّ خللٍ محتملٍ في هذه المعادلة يضرّ بالسمعة الأكاديميّة وينقص من شأنها، وغالباً ما يكون التوافق حاصلاً بين الطالب ومشرفه إلا في حالات نادرة جداً لكنّ المشكلة تحصل على منصّة المناقشة، فقد تتكالب الأسباب على الطالب ويُقدح في جهده بغير علمٍ حين تتدخّل عوامل غير أكاديميّة في حسابات المناقشين، وقد يحصل العكس حين يُحابى الطالب بسبب عوامل نقيضة لتلك العوامل ويأخذ أكثر من استحقاقه بما يضيّع الأخلاقيّة العلميّة على المسرح الأكاديميّ.
يتبارى الكثير من المناقشين في ما يمكن أن يوصف بالاستعراض الباهت والفارغ حين يجد أنّ الطالب طريدة سهلة يمكن الإيقاع بها لصالح إثبات للذات في غير محلّها، إذ يتمّ استعراض المعلومات الجاهزة والملفّقة للإيحاء الكاذب بالمعرفة والقدرة والاطلاع والفخفخة السخيفة، على نحوٍ يعكس استظهار الأمراض الاجتماعية التي يعاني منها على منصّة المناقشة في سياق فجّ يسيء للمناقش والمناقشة والأكاديميّة كثيراً.
المشكلة أنّ المناقشة في العُرف الأكاديميّ ليس لها ضوابط أساسيّة عامة يتّفق عليها نخبة من كبار الأساتذة ممّن لهم باع طويل وخبرة كافية بوسع المناقش أن يتعلّمها تعلّماً صحيحاً، بل هي مجموعة مشاهدات يستقيها من مناقشات سابقة حضرها وحاول أن يقلّدها وليس لديه فلسفة خاصّة به تقوم على آليّات يبتكرها بنفسه تضاف إلى ما يتعلّمه من أساتذته، لذا فهو يتخبّط في مغبّة الإعلاء من شأن ذاته على حساب علميّة الممارسة الأكاديميّة وفعاليّة التقويم البحثيّ التي ينبغي عليه القيام بها، ليضيع البحث من بين يديه في هذه الحالة ويظهر في حالة تمثيليّة تثير سخط السامعين وسخريتهم واشمئزازهم، في حين يجب عليه العناية الأستاذيّة الأبويّة الروحيّة بالبحث والطالب كي يضرب مثلاً في السموّ والرفعة والأناقة العلميّة وهي تضيف وتغني وترفع شأن الجميع بقوّة.