ثامر عباس
لم يصنع التاريخ لمجرد استذكار الماضي واستعراض الأحداث والوقائع، التي تخللت محطات تحوله وسيرورات تطوره، وإنما للاستفادة من دروسه واستخلاص العبر من عظاته، التي من دون استخلاص مضامينها واستلهام دلالاتها، سيبقى الإنسان/ المجتمع يكرر أخطاء مواقفه ويقع في محظورات أفعاله. ولعل مظاهر التخلف الاجتماعي والعنف السياسي والتطرف الأيديولوجي الضاربة أطنابها في بلدان العالم الثالث قمينة بتقديم البراهين الدامغة على تبعات ارتكاب مثل تلك الأخطاء والمحظورات.
ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى انه ليس من الغريب أو الشاذ أن يظهر الإنسان – كما سائر الناس - اعتزازه بتاريخ بلاده والتغني بأمجاد ماضيه مثلما إبداء حرصه على تراثه والحفاظ على أرشيف ذاكرته.
وإنما ما يعد غريبا أو شاذا - إن لم نقل مستهجنا ومرذولا- في الأعراف الإنسانية والأخلاقية والمعرفية هو أن يتعصب ذلك الإنسان لأحداث تاريخه الآفل، وكأنها الوحيدة في مضمارها ويغالي في وقائع ماضيه الزائل وكأنها الفريدة في مجالها.
للحدّ الذي يحول دونه ومراعاة الأدوار والوظائف التي اضطلعت بها أحداث تاريخية لمجتمعات مختلفة ووقائع اجتماعية لثقافات مغايرة.
لا بل إن مغالاة البعض بهذا الخصوص قد تصل - في بعض الأحيان - لحد التضحية بالتاريخ (الوطني) الشامل وطمس قواسمه الحضارية المشتركة لصالح تواريخ الجماعات السوسيولوجية والانثروبولوجية المكونة للمجتمع؛ الأجناس والأقوام والقبائل والطوائف.
بحيث تستحيل سرديات هذه التواريخ التحتية إلى مقاييس صارمة ومعايير قاطعة لا تعتمد فقط في تبني المواقف التي على أساسها يتم الاختيار وتجري المفاضلة بين (الأنا) و(الآخر) في مضمار بناء العلاقات وتعايش الثقافات فحسب وإنما يحرّم المساس بها والتقليل من شانها ناهيك عن التطاول عليها والحط من قيمتها.
وإذا ما قارنا بين تبعات وتداعيات هذه الظاهرة بين عامة المجتمع وخاصته سنلمس على الفور حجم الأضرار وطبيعة المخاطر المتوقع حصولها جراء مواقف هذه الأخيرة (الخاصة – النخبة) حين تصيبها (لوثة) الانبهار العاطفي بالتاريخ بالمقارنة مع مواقف نظيرتها المتموقعة على الطرف الثاني (العامة – الجمهور) على خلفية انخراطها في مثل هذا الضرب من المواقف الشاذة والسلوكيات المنحرفة.
فبينما تؤطر الثقافات الفرعية (الفولكلورية) وما يعبّر عنها ويرتبط بها من تصورات ساذجة واعتقادات عفوية نمط وعي الجمهور الذي غالبا ما تكون خليط منوع من حكايات خرافية ومرويات أسطورية وتمثلات مخيالية.
فان ما يؤطر وعي النخبة (المتولهة) بالتاريخ خليط هجين من النوازع العنصرية والدوافع الإيديولوجية والمنافع الاقتصادية والمطامع السياسية بحيث تحيل هذه النوازع بينه وبين النظرة الواقعية - الموضوعية إلى ماهية التاريخ من جهة والاستدلال على سيرورات حراكه ومسارات تفاعله وديناميات تطوره من جهة أخرى.
ولعل من جملة العواقب التي تترتب على هذا الموقف الاختزالي - الانتقائي نختار محورين اثنين؛ المحظور الأول وهو (التعامي) أو (التغاضي) عن رؤية الانحرافات والارتدادات التي قلما أفلت من قبضتها تاريخ ما من تواريخ المجتمعات البشرية، سواء على مستوى التاريخ المحلي/ الوطني وما ينطوي عليه من أحداث ووقائع أو على صعيد التاريخ الأجنبي/ العالمي وما يشتمل عليه من تجارب وممارسات.
وإذا ما أجبر المؤرخ المعني (صاحب ذلك الموقف) على مراعاة تلك الانحرافات والارتدادات والقباحات، فانه سرعان ما يلجأ إلى تبريرها كمحطات منعزلة أو كمنعطفات طارئة حدثت ضمن مسار تطوري صاعد لتاريخ قومي لم يشهد سوى الفتوحات المبهرة والانتصارات المدوية!.
وهنا يقع في المحظور الثاني وهو الانزلاق إلى مهاوي (التعصب) لتأريخ جلّه ملتبس و(التمذهب) لسرديات معظمها ملفقة.
إذ لا مفر لـ(مؤرخ) يتعاطى مع ثراء وتنوع السيرورات الجدلية للتاريخ بهذه الطريقة الاختزالية والانتقائية من الوقوع في هوس (الأنا) الجماعاتي المفارقة للحقيقة والمتعالية على الواقع، بحيث لا يعود يرى في سيرورات التاريخ وديناميات الحضارة إلاّ ما توسوس به نفسه من هلاوس وتشبيحات؛ تارة باسم التعصب العنصري لقوميته/ جماعته وتارة ثانية باسم التطرف الديني لمذهبه/ طائفته وتارة ثالثة باسم التفوق الحضاري لثقافته/ لغته.