عبد الرضا الجاسم
تتجاوز ثورة الإمام الحسين عليه السلام، بمعناها وأهدافها، حدود الحدث التاريخي الذي تؤطره حدود الزمان والمكان، نعم، يستفاد من أحداث التاريخ من جهة كونها تراكما ليوميات الشعوب، بكل ما تحمل من ارتقاء يحتذى به، أو نكوص يشهد على مغبة الانزلاق إلى نفس المقدمات التي أنتجته، ولكن ثورة الإمام الحسين عليه السلام، كسرت هذا الحاجز، فهي ثورة اخترقت حدود الزمان والمكان، فلم يعد توصيف الحدث التاريخي صالحا للإحاطة بها، فمن حيث المعنى كانت ثورة الحق ضد الباطل،
ليس بالمعنى الظرفي المؤطر بوجود أشخاص بعينهم، وأحداث بعينها، بل بمعنى ثورة الحق من حيث هو حق، ضد الباطل من حيث هو باطل، لذلك فهي عابرة للحدود الزمانية والمكانية، فنحن أمام ثورة مستمرة، ولعل أبلغ مقولة تشرح هذا المعنى هي مقولة: (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء).
إن نظرة متأملة في أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، تظهر جليا حقيقة أن هذه الثورة عنوان جلي لنموذج شاء الله سبحانه أن يقدمه للبشرية كلها، فقد ضرب الله مثلا حيا على صعيد كربلاء، ليس نصا مقروءا من كتاب، أو قولا على لسان نبي، بل مثل يتحرك على الأرض، في مشهد جمع في فصوله عينة تمثل البشرية كلها على صعيد واحد، وكأنه امتحان للجنس البشري كله على رمال كربلاء.
لقد نبهنا الله سبحانه في كتابه الكريم على حقيقة رافقت تاريخ بني آدم، طوال مسيرتهم المليئة بشتى الأحداث، هذه الحقيقة هي أن الذين يخرجون سالمين من جولة التمحيص والابتلاء هم قلة، أما الأكثر فيخرجون مثخنين بالعار والخزي في الدنيا والآخرة، ولكي لا يتوهم الإنسان أو يوهم نفسه عامدا أن النجاح مستحيل، بدليل أن أكثرهم لا يزالون يفشلون في الامتحان على مر الأزمان، فقد ضرب الله لنا مثلا واقعيا أبطاله بشر مثلنا، ولكنهم مثال لكل الإنسانية، مفاده أن الإنسان يستطيع أن يرتقي إلى هذا المستوى، بدليل أن هؤلاء بشر مثلكم، فكيف استطاعوا أن يصلوا إلى هذا السمو المبهر، إذا لم يكن هذا مستطاعا لبني آدم؟.
يحق لكل إنسان، من أي دين، ومن أي عرق، أن يفخر بأن إنسانا مثله وصل في لحظة تاريخية معروفة، وفي مكان معروف، وإطار حدث معروف بتفاصيله الواقعية، وصل الى مرتبة من التسامي على كل ضعف، والرقي في الثبات على المبدأ حتى الرمق الأخير، والتضحية بوجوده كله من أجل الحق خاليا من كل غرض، بل الحق بما هو حق، وصل إلى مرتبة جعلت منه مثابة على طريق السائرين نحو التكامل، بل غاية تهفو إليها نفوس الباحثين عن المواقف العظيمة الخالدة، التي تحدث فرقا في الحياة، باتجاه ترسيخ ثوابت الحق والعدل وإنسانية الإنسان وكرامته، وإدانة الباطل والخضوع ومقايضة القيم بحياة الذل والهوان. المثال الذي جرت وقائعه على صعيد كربلاء، عرض لنا مشهدا لصراع الأمثلة، بكل أشكالها، أمثلة الكمال الإنساني والسمو إلى درجة المثل الأعلى، وأمثلة النكوص إلى أسفل سافلين، ولكي يفهم الجميع معنى المثل المضروب، احتوى المشهد على عينة من جميع أصناف البشر وخلفياتهم الفكرية والاجتماعية، وأعمارهم وأجناسهم، ففي معسكر الحسين عليه السلام، هناك ذرية نبي لا تخطئهم العيون، إلا من كان أعمى البصيرة، وهناك سادة لأقوامهم، ورجال من عامة الناس، وكما كان هناك أحرار وقف معهم عبد مملوك كتفا بكتف، وكما كان هناك شباب متحمس، كان معهم شيوخ ضربوا مثلا للثبات تحار فيه العقول، وكان هناك العربي والتركي، المسلم والمسيحي، وكما كان الرجال بحجم الموقف العظيم، كانت هناك نساء بنفس المستوى من الثبات والشجاعة، بل كان هناك صغار ارتقوا ذرى الشجاعة بكل ثبات ونالوا الشهادة، في مشهد اختصر المجتمع الإنساني على صعيد واحد، وقدم المثل الأعلى لما يستطيع أن يبلغه الإنسان في مراقي الكمال، إذا انعتق من أغلال الخنوع والركون إلى حياة الذل.
في ليلة المواجهة، خير الحسين عليه السلام أصحابه، في موقف ليس غريبا عن سمو نفسه الكبيرة، فقد كان واضحا كالشمس، لم يجعلهم درعا يقف خلفه هو وأهل بيته، بل قال لهم إن القوم يطلبونني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن غيري، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، فهل هناك وضوح واستقامة ونزاهة في الموقف تعلو على موقفه من أصحابه، وليس بينه وبين مواجهة ألوف السيوف المشرعة لقتله مع أهل بيته، وسبي نسائه، غير ليلة واحدة يؤذن صباحها ببدء الملحمة، ولكنه مثال الحق في القيادة، فأتى جواب أصحابه ليقدم المثال في نصرة الحق؛ فمنهم من يسأل: لماذا نتركك؟ لنحيا بعدك؟ قبح الله العيش بعدك، ومنهم من يقول: لو قتلت وأحرقت، يفعل بي ذلك ألف مرة، ما تركتك، فكيف وهي موتة واحدة، فأي مثال في القيادة، وأي مثال في النصرة، بل إن أحدهم جرح في المعركة وأغمي عليه، فظنوه ميتا وبقي ملقى على الأرض، ولما انتهت المعركة بعد استشهاد الحسين عليه السلام، أفاق الرجل وسمع القوم يتنادون أنهم قتلوا الحسين، والرجل قد أدى ما عليه ولم يعد بوسعه فعل شيء، ولكنه أبى إلا أن يخط السطر الأخير من سمو موقفه، فأخرج سكينا كان معه ولحق بالقوم يقاتلهم حتى سقط شهيدا، فأي كلمات تستوعب وصف هذا المثال.
وفي معسكر أعداء الإمام الحسين عليه السلام، كانت هناك أمثال من نوع آخر، أمثال جمعت كل تاريخ الخسة والوضاعة وتحجر القلوب والضمائر، ودناءة النفوس ووضاعتها. قوم عرفوا أن أمامهم آل بيت نبيهم، فقتلوهم بأبشع الطرق، حتى جاوزوا ما يطلبه منهم أمراء السوء الذين أرسلوهم، سمعوا ما قرع به الإمام الحسين وأصحابه أسماعهم من الحجج والبينات، فسدوا آذانهم بأصابع الطمع، وغشيت أفهامهم رغبة التزلف إلى سلاطين الجور، واختاروا العيش أذلاء صاغرين، على نصرة الحق الذي أتى لينقذهم من ظلم ظالميهم، فأي وضاعة لمن يقف مع ظالميه ضد منقذيه من الظلم؟
منعوا الماء عن الأطفال والنساء، أحرقوا الخيام وهم يسمعون صراخ الأطفال وبكاء النساء، من غير أن يرف لهم جفن، أو تنبض فيهم بقية من ضمير أو إنسانية، بل قتلوا حتى الرضيع في حجر أبيه، وختموا مشهد المأساة، بأن داسوا بخيولهم على صدر الإمام الحسين بعد استشهاده حتى هشموها، إرضاء لسلطان لم يروا معه غير الهوان، وهم يعلمون أن الصريع ابن نبيهم، وأولئك القتلى الذين افترشوا رمال كربلاء هم أهل بيته وأنصاره، وأن السبايا هن حرم رسول الله وبقيته فيهم.. إنها مواجهة بين الأمثال، مثل الحق في كل زمان ومكان، ومثل الباطل في زمان ومكان، فازت فيها قلة، ولكنها كانت - بمعناها - أكثر من الغثاء الذي يملأ الأرض
بالضجيج.