الوحدة الوطنيَّة والتنمية الاقتصاديَّة

آراء 2024/07/09
...













  د.عدنان هادي جعاز


 لا شك أن لصحة وسلامة النسيج الاجتماعي وانسجامة أثراً كبيراً على صحة وسلامة اقتصاد العراق، فالنسيج الاجتماعي بما يمثله من شبكة العلاقات والتفاعلات الاجتماعية، التي تربط أفراد المجتمع في ما بينهم بمناطقهم المختلفة وأعراقهم ودياناتهم ومذاهبهم، ولذا يجب المحافظة على منظومة علاقات مبنية على الاحترام المتبادل في ظل مفاهيم المواطنة بخاصة في بلد مثل العراق له قيمة مكانية وجغرافية سياسية واقتصادية كبيرة جداً فهو نقطة الوصل المباشرة بين آسيا وأوربا وبين الشرق والغرب، لكن هذه الصفة ذات القيمة الاقتصادية الكبيرة تفقد أهميتها وتزداد حدة توترها بسبب الخلافات، التي تنشب بين الحين والآخر نتيجة للصراع السياسي الذي يلبس لبوسا طائفيا.

ومن الملاحظ تنوع المشكلات الأثنية، فمن مذهبية إلى مناطقية إلى قبلية، فضلاً عن اختيار توقيتاتها الخطيرة والحساسة، ففي كل مدة هدوء نسبي يحققه العراق تتبعه حركة اقتصادية واستثمارية نشطة نلاحظ بروز مشكلة تؤثر في النسيج الاجتماعي، ما يزيد من مؤشرات الخطر الأمني، وهو من أهم عوامل نفور المستثمرين وتثبيط حراك الاستثمار وعرقلة النشاط الاقتصادي في العراق، ففي المدة الأخيرة حقق العراق مكاسب اقتصادية مهمة، نذكر منها تسديد الديون الخارجية ومشاريع البنى التحتية واستثمارات مهمة في مجال استثمار الغاز ونظرة استراتيجية طموحة لمستقبل استثمارات في مجال الطاقة، كل ذلك من الممكن أن تؤسس لنهضة اقتصادية مستقبلية تضع العراق على مسار تنموي يغير من الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي نحو الأفضل.

لكن هناك من يسعى لإرباك العلاقات الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد، لإفشال مشاريع العراق التنموية المستقبلية، التي تسعى لجملة من الإصلاحات الاقتصادية، فالوقت يمضي سريعاً والعالم لن ينتظر وربما تكون هي آخر الفرص لنهضة العراق لتحقيق نهضة شاملة. 

عانى العراق بعد 2003 من المشكلات الأثنية بشكل كبير، مع اختلاف أنواعها، لكنها جميعا تهدف إلى تعطيل مسيرة العراق الاقتصادية وإيجاد آليات تضمن عدم تحقيقه أي نهضة اقتصادية، تعيده إلى واقعه ومكانته الجيوسياسية والاقتصادية، وبالتالي إلى الثقل السياسي في منطقة الشرق

 الأوسط.

لماذا لا يحقق العراق ما حققته ماليزيا في تحييد العوامل الأثنية، والتي تعدُّ من أكبر معرقلات الاقتصاد، فماليزيا التي كانت تعاني من مشكلة أثنية اكبر وأعقد بكثير من العراق، فهي بين شعبين مختلفين في العرق والدين، وحتى المستوى الاقتصادي، فهي كانت بين الصينيين البوذيين، الذين يمتلكون 98% من ملكية الشركات، وبين شعب الملاوي صاحب الأرض المسلم، والذي يعيش أوضاعاً اقتصادية مأساوية، ففي مطلع السبعينيات وبعد استقلالها من الاستعمار الإنكليزي انفجرت أكبر مشكلة عرقية دموية في كوالالمبور بين الملايو المسلمين وبين الصينيين، كادت أن تنهي الدولة برمتها، لكنها بعد سنوات تمكن قادة وحكماء ماليزيا من تحييد المشكلات الأثنية، فتحولت وبسرعة من واحدة من أفقر دول إلى العالم إلى نمر اقتصادي مهم في العالم، لها القدرة على مواجهة التحديات والأزمات السياسة والاقتصادية، وخير دليل على ذلك قدرتها من الخروج من الأزمة المالية 1997 وبإمكانات ذاتية، التي ضربت نمور الاقتصاد

 الآسيوية.

وتجربة راوندا الأفريقية أيضا تستحق الإشارة لها، والتي نشبت بها حرب اهلية عام 1990راح ضحيتها مليون إنسان خلال 100يوم فقط وبنسبة 10% من الشعب وتم اخذ النساء كرقيق وسبايا، لكنها اليوم تمكنت من تجاوز كثير من الدول اقتصاديا، وحققت معدلات نمو حقيقي قادم من الصناعة والزراعة وصل إلى 9%، وهي واحدة من أهم مراكز الجذب الاستثماري في القارة الأفريقية بعد أن قضت على المشكلة العرقية وحققت الاستقرار اللازم. 

إن ثورة العشريين العراقية تمكنت من تحرير العراق من الاستعمار البريطاني، والتي تبعتها مجموعة من الإجراءات الاقتصادية المهمة عملت على تحرير العراق من التبعية الاقتصادية لبريطانيا، وحققت نهضة صناعية وزراعية ونقدية كبيرة نسبياً، فيجب على الجميع أن يفخر بها لا أن يجعلها مادة للفتنة تجعل العراق متخلفا اقتصاديا واجتماعيا. 

ولن يتمكن العراقيون من بناء اقتصاد قادر على تحقيق نهضة تنموية شاملة، الا إذا اصبحوا عراقيين فقط وفقط ويغلبون الوطنية والهوية الوطنية الأعم والأشمل على الهويات الفرعية، وأن يحظى النسيج الاجتماعي وهو أساس رأس المال الاجتماعي بقدسية خاصة فيما بينهم، فالإنسان يعتز بنسبه وقبيلته لتعطيه بعدا أخلاقيا أكبر، ويعتز بدينه ومذهبه لأنه يديم علاقته مع خالقه، أما الشريك في الوطن فيجب أن تديمها المنظومة الأخلاقية، التي أرستها الأديان جميعا، والتي اكتسبتها من نبل عرقك وكرمه وسمو منزلته، وبالتالي يحقق المجتمع الاستقرار، الذي يحافظ على موارد البلد المالية، ويضمن توجهها إلى مشروعات تنموية حقيقة، لا أن تتحول وبسبب الفتن المختلفة إلى إنفاق عسكري على حساب الإنفاق الاستثماري ويجعل العراق طاردا للاستثمار المحلي، ناهيك عن الأجنبي ويعمل على تهريب الفوائض المالية للتجار وأصحاب الدخول العالية، ويدمر البنى التحتية، فآثار حرب داعش ما زالت قائمة، وتكاليف إعادة الإعمار وتسديد الديون الأجنبية أثقلت كاهل الموازنات العراقية منذ العام 2018، فضلا عن خسارة أكثر من80 مليار دولار كانت في رصيد الاحتياطيات من النقد الأجنبي قبل عام 2014.

وكل هذا الكم الكبير من الخسارة المالية الكبيرة والخسارة الأكبر في رأس المال البشري من تدمير جامعات ومستشفيات والعدد الكبير من الشهداء، كل ذلك كان بسبب فتنة استغلت التنوع المذهبي، ليكون أداة لتدمير البلد اقتصاديا وهي من الأدوات المهمة في تدمير اقتصاد الدول، ولو القينا نظرة على كتاب «الاغتيال الاقتصادي للأمم» وهو عبارة عن مذكرات الاقتصادي الأمريكي جون بيركنز الشخصية، الذي يصف فيه وظيفته كقاتل اقتصادي بحسب وصفه، والتي تُلخّص الأسلوب الجديد للولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على دول العالم الثالث للاقتصادي، والتي تتضمن اعترافاته ومسؤوليته عن تدمير اقتصادات مجموعة من دول العالم الثالث والآليات، التي اتبعها والأدوات، التي استعملها تجد أن التلاعب بالنزاعات الأثنية من أهم أدواتهم، لشل اقتصادات الدول وجعلها أسيرة للمنظمات الاقتصادية

 الدولية.

نعم هناك من لا يعرف أبعاد عصبيته الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية، والتي تستغل للتأثير على مسيرة بلده، ومن دون أن يشعر يصبح معول هدم لاقتصاده، ويحول التاريخ من مادة للفخر إلى مادة لتدمير حاضره ومستقبله، وأنا هنا لا أتهم أحداً من العراقيين بتعمد إشعال الفتن، لكن أطلب من الشعب العراقي بألا يكون حاضنة لهذه الفتن أو أن يوفر الاوكسجين اللازم لإشعالها، وتدميرها للنسيج الاجتماعي والذي يتبعه تفكيك للجغرافيا، ما يعني خسارة العراق في المنافسة، ليكون جزءا مهما على طريق التجارة العالمية، والتي يعول عليها العراقيون جميعا، لتشكل موردا اقتصاديا مهما جداً يقدم العراق تنموياً.