خطاب العقل العربي

آراء 2024/07/11
...

 علي المرهج

كتب د. محمد عابد الجابري عن العقل العربي في ثلاثيته (نقد العقل العربي) «تكوين العقل العربي»، و{بنية العقل العربي»، والعقل السياسي العربي»، و{العقل الأخلاقي العربي، وقسم العقل العربي لثلاث أنظمة معرفية هي: النظام البياني والنظام العرفاني، والثالث هو البرهاني، كأن هذا التقسيم للعقل العربي يخصه لوحده، وهو الذي يختص بهذه الأنظمة فقط، ولكن من وجهة نظري أن ما سميّ بالعقل العربي،

 إنما هو عقل من صناعة الجابري، لأن هذا العقل هو افتراض اجرائي وضعه الجابري لجماعة حدتها حدود مصطنعة قيل أنهم عرب، ولكن العربية لغة تجمع الكثيرين منهم إلا أنها لا تُشكل سستم التفكير عندهم، فما هو عند العراقي من موروث إسلامي وقبله رافديني، ينتمي لحضارة ما بين النهرين يجعل العقل في هذه المنطقة يتشكل على وفق أنثربولوجيا الموروث المتكون في هذه المنطقة، ومن الصعب أن تجد هناك جامعا مانعا لما يمكن تسميته بالعقل العراقي بالقياس، لتنوع العراق العقائدي والديني والمذهبي والأثني، بل وفي شعور الانتماء لجنوب العراق بحضارته السومرية أو البابلية أو الآشورية ومن ثم الإسلامية، لذلك من الصعب علينا أن نقول هناك عقل عراقي، فكيف يمكن لنا أن نقول هناك عقل عربي!. 

في المقابل هناك حضارة مصر، التي تجتمع حول موروثها الفرعوني أكثر من شعورها بالانتماء للفضاء الإسلامي أو العربي، وإن كانت وما زالت مصر بكل خطابات مفكريها تنتمي للعروبة، والحال ينطبق على بلاد الشام وحضارتها الفينيقية. 

أما دفاعه عن عقلانية أهل المغرب العربي، وتبنيهم للنظام البرهاني في المعرفة فهو دفاع بقصد الخلاص من سطوة ثقافة أهل المشرق بنزعاتهم المتباينة بيانية وعرفانية وبرهانية التي ما زالت مهيمنة في الثقافة المغاربية في الأدب والفقه وفي التصوف، بل وحتى في الفلسفة رغم سعيه الحثيث للكشف عن نزعة برهانية توجتها فلسفة ابن رشد، رغم أن ما قدمه ابن رشد لم يسد في الخطاب التداولي العام في ثقافة أهل المغرب العربي، مثلما لم يسد خطاب الفلاسفة المشارقة، رغم اتهامه لهم بأنهم غنوصيون باطنيون، توجت رؤية ابن سينا وأخوان الصفا رؤيتهم للعالم والوجود والحياة.

يبدو لي أن الجابري بقيّ رهين الحلم العربي بتأكيده على الخطاب العروبي في جل كتاباته التي تبناها مركز دراسات الوحدة العربية، رغم اصراره على إيجاد تمايز بين عقل عربي مشرقي وآخر مغربي وأفضلية الثاني على الأول لما في الثاني (المغربي) من نزوع لتبني البرهان منهجًا في المعرفة. 

أقول إن الخطاب الفلسفي في المشرق وفي المغرب العربي لم يكن خطابًا سائدًا في التداول العام بقدر ما كان خطابا للخاصة، إن لم يكن لخاصة الخاصة، وهكذا خطاب من الصعب أن يمس حياة مجتمع بأكمله، إن كان هذا الخطاب يدور في فلك حوار الفلاسفة في ما بينهم. وقع الجابري تحت سطوة الشائع في مقولات الاستشراق والمستشرقين بأن العقل العربي عقل «جواني» بتعبير عثمان أمين في كتابه «الجوانية» والعقل الغربي عقل «برهاني» وهي مقولة اشتغل عليها «رينان» و «ومونك» من المستشرقين، وما زالت هذه المقولة سائدة من أن الشرق روحاني والغرب عقلاني، ولأن المغرب العربي لا يفصله عن الغرب غير البحر الأبيض المتوسط، فهو بتحصيل الحاصل عقلاني وبرهاني بالضرورة، وهو برؤيته هذه لم يأت بجديد، لأن طه حسين من قبل سبقه في تبني هذه المقولة، ودافع عن عقلانية مصر، لأنها امتداد لحضارة البحر الأبيض المتوسط، بل وامتداد للفلسفة اليونانية بطابعها العقلاني، ولا أدل على ذلك من وجود مدارس فلسفية في مصر، وفي مقدمتها مدرسة الاسكندرية كما جاء في كتابه «»مستقبل الثقافة في مصر». 

رفض محمد أركون القول بوجود عقل عربي، فكتب عما أسماه «العقل الإسلامي» وهذا ما صرح به هاشم صالح في ترجمته لأعمال محمد أركون، لا سيما كتابه «تاريخية الفكر الإسلامي». يجتمع الجابري وأركون حول فهم العقل على أنه عقل محكوم بلحظة تاريخية، فعقل ابن سينا غير عقل ابن رشد بحكم التحدي الأيديولوجي والبنية الفكرية السائدة في زمن كل منهما، لذلك فضّل أركون استخدام مفهوم الفكر بدل استخدام مفهوم العقل. كلاهما الجابري وأركون كان» كانت» في نقده للعقل أو في مقاله «ما التنوير» حاضرًا في قراءتهما للتراث على ما بينهما من اختلاف في تبني الجابري الدفاع عن العقلانية، وأشكلة أركون عليها ودفاعه عن الأنسنة في الفكر العربي، الذي كان موضوع أطروحته للدكتوراه بعنوان «الأنسنة في الفكر العربي - التوحيدي ومسكويه أنموذجًا».

كان الجابري أقرب لفلسفة «كانت» النقدية» في عقلانيتها، ولكن أركون كان أقرب منه لها في خواتيمها، بعد أن تأكد لكانت»حدود العقل» وقصوره عن إدراك عوالم الميتافيزيقا. 

ميزة أركون أنه لم يجعل العقل البشري رهين النزعة البرهانية، التي أقام الجابري عليها رؤيته الفلسفية في المفاضلة بين الأنظمة المعرفية الثلاثة، ليكشف لنا أركون عن رحابة هذا «العقل الإسلامي» ونزعته للأنسنة بعيدًا عن» التقوقع الفكري» وتقييد العقل، ليكون أحادي النهج «برهاني» التفكير، فلا وجود لأصول دائمية «حقانية» تأسر العقل وتسوره عند أركون لاستحالة التأصيل بتعبيره في كتابه «الفكر الأصولي واستحالة التأصيل». مشكلة الجابري أنه وضع حدودًا لما أسماه «العقل العربي» وقيده بأنظمة المعرفة الثلاثة، التي ذكرناها، وفاضل بينها وانتصر للنظام البرهاني، الذي اجتهد في البحث في تراث الفكر المغربي العربي ليؤصل له، ويؤكد لنا أن «لا كون لنا إن لم نكن رشديين» في كتابه»ابن رشد سيرة وفكر» ليقع في مطب ما وقع به فلاسفة القول بالحقيقة و» سفينة النجاة» وكأنه يُعيد لنا إنتاج مفكر الوضعية المنطقية في الفكر العربي المعاصر (زكي نجيب محمود) في نقده للامعقول ودفاعه عن المعقول، الذي مثلته الوضعية المنطقية، التي وقعت في ما يُمكن تسميته «ميتافيزيقا العلم».