ساطع راجي
لم يتوقع أحد أن تحدث مذبحة علنية طويلة الأمد كما يحدث في غزة، وكثيرون راهنوا على أن تطور الاعلام سيؤدي إلى ردع ممتهني العنف العام والجرائم الكبرى، أو على الأقل أنهم سيحاولون تنفيذ جرائمهم بسرعة خاطفة وبأقصى درجات التكتم، بل كان يقال إن الحروب طويلة الأمد ستختفي، لكن مئات الأيام مرت على العمليات العسكرية الصهيونية في غزة، دون أن تؤثر في القتلة التغطيات الإعلامية المتواصلة على مدار
الساعة.
كما ساد اعتقاد بأن تشكيل الكثير من الأجهزة القضائية والمنظمات الدولية وترسيخ الاتفاقيات الإنسانية سيدفع أي قيادات سياسية أو عسكرية للتفكير مطولا قبل الإقدام على تنفيذ انتهاكات واسعة ومنظمة لحقوق الانسان، لكن ما يحدث في غزة بدد كل هذه الاعتقادات وأكد أنها أحلام يقظة لا تردع المجرمين.
وكان من المتوقع أن يساهم تزايد اعداد منظمات المجتمع المدني وجماعات الحقوق والنشطاء والفعاليات الشعبية والتظاهرات في دفع أي حاكم أو قائد عسكري إلى التراجع عن قرارات الحرب والجرائم الكبرى خشية من الغضب الشعبي، أو خشية من العار الذي سيلاحقه في كل حضور سياسي أو فعالية عامة، لأن الغاضبين من سلوكه سوف يلاحقونه ويحاصرونه، لكن قادة الكيان الغاصب لم يهتموا بكل الفعاليات الشعبية والتظاهرات الحاشدة في مختلف مدن العالم.
وفي نظام حكم يعتمد الانتخابات، كان من المتوقع اهتمام الحكومة في تل أبيب بسلامة مواطنيها والحرص على أمن الأراضي، التي تحت سيطرتها وتجنب الضربات العسكرية الخارجية وعدم تعريض الاقتصاد لهزات عنيفة وأن تتصرف كما يتوقع من حكومة تدعي الحداثة والديمقراطية والعمل المؤسسي، بعيدا عن هاجس الانتقام الاعمى والثأر الهمجي وارتكاب الجرائم ضد المدنيين بدرجة علانية وقحة ومستهترة، لكن هذا لم يحدث.
من الواضح أن الغرور الصهيوني القائم على امتلاك القوتين العسكرية والمالية لا يهتم بكل القواعد القانونية والإنسانية وحتى العقلانية، والسبب الأساسي في ذلك أنه يعيش جوار محيط اجتماعي ضعيف علميا واقتصاديا وعسكريا، إعتاد على الانتهاكات والتهجير والابادة في داخله، وهو محيط يبرر الجرائم ويتستر عليها أو يتنصل منها، لذلك يعتقد الصهاينة أن سلوكياتهم منسجمة مع المحيط الرسمي والشعبي للمنطقة، وهو ما يعززه الانقسام والتردد في كثير من الدول والقوى في المنطقة، كما تعززه الأوضاع الإنسانية السيئة في معظم دول المنطقة، وهو ما يستخدمه الصهاينة كدليل إجرامي على أن ما يفعلونه هو منسجم مع «ثقافة المنطقة» ويضربون الأمثلة بعدة دول مجاورة للأراضي الفلسطينية، وهم على عادة المجرمين يدافعون عن انفسهم بذريعة شيوع نفس الجرائم مكانيا وتواترها زمانيا، ويقدمون قائمة طويلة مما تشهده المنطقة يوميا، لكنهم في نفس الوقت نسفوا ما يروجونه عن تقدمهم واختلافهم.
إن تحطيم القواعد الحضارية (قانونية، إنسانية، عقلانية) في غزة يدفع إلى التفكير الإيجابي بإعادة بناء هذه القواعد وتقويتها وفرضها لكن في موازاة ذلك ينمو تفكير سلبي يدعو إلى تجاهل هذه القواعد ونسفها لأنها لم تكن فعالة في غزة وهو اتجاه يدعمه كثير من الطغاة المهووسين بالجرائم الكبرى ليعيدوا نفس حلقات تبرير القمع المحلي، الذي شهدته المنطقة منذ خمسينيات القرن الماضي، فبعض الذين يتبنون هزيمة الديمقراطية وحقوق الانسان بدلالة ما يحدث في غزة يريدون منح الحق لأنفسهم باستخدام الأساليب الصهيونية الاجرامية ضد شعوبهم.