د. صادق كاظم
لأول مرة ومنذ العام 1958 تخلو الروزنامة الرسمية العراقية من عطلة الرابع عشر من تموز، الذي يقترن بذكرى أول ثورة مسلحة أطاحت بالنظام الملكي، الذي تأسس عقب موافقة بريطانيا على منح العراق استقلالا ظاهريا وإنهاء حالة الانتداب في العام 1921 كأحد مقررات مؤتمر
القاهرة.
القرار الغريب الذي اتخذه البرلمان مؤخرا بحذف هذه المناسبة من قائمة العطل الرسمية، التي تم تشريع قانون خاص بها يثير التساؤلات والحيرة، فليس هناك عراقي واحد يمكن أن يختلف على هذه الثورة، التي هي وإن جاءت عن طريق الجيش، لكنها أحدثت فارقا وتغييرا اجتماعيا كبيرا ومؤثرا في البلاد، بل ونقلته من مسار إلى آخر ظهر تأثيره بوضح ولا يزال عندما اصطفت إلى جانب الفقراء والمهشسن وأزاحت الطبقة البرجوازية السياسية القديمة، التي احتكرت السلطة ومواقع النفوذ لصالحها وأغلقت الباب بوجه أي تحديث أو تغيير ووطدت دعائم حكمها بالتحالف مع البريطانيين، فضلا عن طبقة التجار وكبار ملاك الأراضي من شيوخ الإقطاع والزعامات التقليدية الأخرى
في حين أن هذا النظام لم ينجح ولم يسعَ واقعيا إلى إحداث تغيير اجتماعي مع ظهور وصعود الطبقة الوسطى المتعلمة، وكذلك الطبقات الشعبية الأخرى وتفهم احتياجاتها ومعاناتها ولم يعمل على استيعابها ودمجها في هذا النظام، من أجل تحقيق طفرة اجتماعية وثقافية وسياسية ممكن أن توظف لصالحها .
هناك سرديات عديدة تتحدث عن بداية الثورة الدموية وكيف أن ضابطا متهورا أطلق النار على الأسرة المالكة، التي خرجت باكملها معلنة استسلامها فأبادها جميعا في ظاهرة مؤسفة ومؤلمة وما رافق أحداث الثورة بعد ذلك من اندفاع همجي ووحشي، تم فيه سحل جثث القتلى لكل من رئيس الوزراء نوري السعيد والوصي عبد الاله وعرضها على الشوارع، وسط بهجة المنتقمين وفرحهم بهذا المنظر، الذي يعكس سايكولوجية العنف الدموي المتوطنة في هذه البلاد منذ آلاف السنين.
بالرغم مما عانته الثورة لاحقا من صراعات وانقسامات وهي نتيجة طبيعية لأي بلاد تمر بمثل هذا الحدث وتعاني من انقسامات واختلافات قومية وسياسية وتدخلات خارجية ضاغطة، لكن الأهم من ذلك أنها أعادت تشكيل التكوين الاجتماعي وحسنت من أوضاع الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، التي حققت انجازات تعليمية وثقافية تحسب لها.
تموز شهر الانقلابات والثورات الشهيرة في العالم كالثورة الفرنسية والمصرية والعراقية وغيرها يرتبط بالذاكرة التاريخية العراقية، بانه شهر الحصاد وجني المحاصيل والغناء والفرح والاحتفالات بمراسيم الزواج وغيرها، التي تعكس أهمية هذا الشهر لدى سكان العراق الأوائل ومدى توغله في عمق الموروث الثقافي والشعبي لدى العراقيين.
إن الغاء اعتبار ثورة 14 تموز كمناسبة تاريخية مهمة يعني إبقاء العراق من دون ذاكرة وطنية، اذ لم يعد هناك تعريف محدد ليوم الاستقلال أو العيد الوطني، بعد إلغاء الاحتفال بدخول العراق إلى عصبة الامم عام 1932، اذ ستبقى البلاد من دون مناسبة فعلية حقيقية، تعكس تعمق جذور الانقسام والاختلاف في الوعي الجمعي السياسي، الذي من المفروض ان يكون حاسما وان ينطلق
بروح وطنية لحسم ملف المناسبات انطلاقا من الوعي بأهميتها كمرتكز لبناء وترصين الهوية الوطنية للبلاد، بعيدا عن الانقسامات والاختلافات والتجاذبات التي ما زلنا نعاني منها منذ عام 2003، فضلا عن أنه يعكس غياب الإرادة في حسم الجدل والاختلاف حول الكثير من المباني والشواهد الوطنية الأخرى كاختيار النشيد الوطني والسلام الجمهوري للبلاد، رغم أن الدستور ينص على ضرورة أن يكون هناك نشيد وسلام جمهوري خاص بهذه المناسبة ضمن فترة زمنية قصيرة، خصوصا وأن البلاد تعج بالكفاءات الشعرية والفنية والموسيقية القادرة على إنجاز ذلك من دون إضاعة كل هذا
الوقت.
الوقت لا يزال متسعا ومتاحا أمام إعادة مراجعة هذا القرار الذي يصادر ذاكرة وطنية وشعبية تكن لهذه المناسبة والثورة احتراما ومكانة كبيرة، فضلا عن كونها مناسبة يجمع عليها كل العراقيين باعتبارها يوما تاريخيا حاسما، يعكس هويتنا ومجدنا ونظرتنا الايجابية لحدث غير الكثير من المنعطفات، التي كانت من الممكن أن تصنع شكلا آخر لمستقبل العراق وشعبه، لولا قوى التآمر التي تحالفت لإجهاضها وتشويهها وتمهيد الطريق لصعود الأنظمة الدكتاتورية الإجرامية.
إن من حقنا أن نسأل لماذا لم يتبرأ الفرنسيون والمصريون الذين سبقونا بثوراتهم منها، رغم تغير الأنظمة والحكومات، التي تعاقبت عليهم وما حصل لاحقا من أخطاء وتجاوزات، حيث حافظوا على معانيها ورمزيتها بالنسبة لهم كإطار جامع لهويتهم بغض النظر عن الماضي وعيوبه وسلبياته.