منجزات ثورة

آراء 2024/07/14
...


 حسن الكعبي

تحتل ثورة 14 وزعيمها عبد الكريم قاسم مكانة كبيرة عند الشعب العراقي ونخبته الثقافية، باعتبارها ثورة أحدثت تغييرات كبيرة في البنية الاجتماعية على مختلف الأصعدة، رغم عمرها القصير، وتتمثل تلك التغييرات في المنجزات الملحوظة في أعقاب الثورة، وهي منجزات عجزت الحكومات، التي أعقبت الثورة عن إنجاز مماثلاتها، وبرغم الإنجازات الكبيرة التي حققتها ثورة تموز، إلا أنها ظلت عرضة للشك والتجريح واعتبرها البعض بمثابة التمهيد لحقبة دامية وفوضى مستمرة من الانقلابات وعدم الاستقرار بالقياس للعهد الملكي، الذي أطاحت به الثورة الذي يمثل بنظرهم عهدا للديمقراطية
والاستقرار.
ان الخروج عليه وقرارات الثورة ضده كانت خاطئة، وقد أفرزت نتيجة لهذا الخطأ حقبة دموية ما زال المجتمع يعيش أزماتها وأوزارها  وتبعاتها.
إن الاتصال بالتاريخ وقراءته قراءة واعية ستقودنا إلى نتيجة أساسية أبتنت عليها التصورات الفكرية، وهي أن الثورات لا تحدث بمحض قرار أحادي، وإنما هي تحدث نتيجة صدام حاد بين البنية التحتية والبنية الفوقية، وهذا الصدام هو نتاج لطابع التناقض بين البنية التحتية
والفوقية الأولى في إطار مسعاها إلى التغيير والثانية بوصفها رافضة للتغيير، وتسعى إلى الثبات على مكتسباتها، ويرصد الدكتور عبد الخالق حسين طابع التناقض الحاد بين البنية التحتية والفوقية وممانعة هذه الأخيرة للاستجابة لمطالب التغيير الاجتماعي بشخصية نوري السعيد، (لقد لعب نوري السعيد الذي تبوأ رئاسة الحكومة 14 مرة، دوراً رئيساً في العهد الملكي في خلق عقبة كأداء أمام تطور البنية الفوقية (السلطة)، إذ كان يحكم حتى في الفترات التي لم يكن فيها هو رئيساً للحكومة.
وعلى سبيل المثال، في الانتخابات البرلمانية عام 1954، حصلت أحزاب المعارضة الوطنية على 11 مقعدا فقط من مجموع 131 مقعداً، وكان رئيس الوزراء آنذاك أرشد العمري.
فلم يتحمل نوري السعيد هذا العدد القليل من نواب المعارضة، فما كان منه إلا وأن قام بانقلاب القصر على زميله العمري، بعد 24 ساعة من افتتاح البرلمان بخطاب العرش، فعطل البرلمان، وأعلن الأحكام العرفية (حالة الطوارئ)، وألغى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وأغلق الصحف إلا تلك المؤيدة للسلطة، وشكل الحكومة برئاسته.
ولهذا السبب وعشرات الأسباب غيرها، يئِست المعارضة الوطنية من أي أمل في الإصلاح والتغيير بالوسائل السلمية.
وعليه حصل الانفجار، والمسؤول عنها هم أولئك الذين رفضوا التغيير السلمي ).
بناءً على هذا التأسيس فان الثورة حدثت كحتمية تاريخية فرضها طابع التناقض الحاد، ولم تأت الثورة بمزاج شخصي أو أنها اعتباطية وفوضوية، بل إنها حققت مكاسب ومنجزات كبيرة يرصد المؤرخون ومنهم دكتور عبد الخالق حسين أهمها على مجمل الأصعدة، فعلى الصعيد السياسي والاجتماعي (الغاء الثورة الملَكية وإقامة النظام الجمهوري.
وتفجير الوعي السياسي لدى الجماهير الشعبية الواسعة، التي كانت محرومة من المساهمة في النشاطات السياسية، تعزيز الاستقلال السياسي، والحفاظ على كيان العراق السياسي، واستقلاله الناجز وسيادته الوطنية الكاملة، وإلغاء جميع المعاهدات الاستعمارية الجائرة والمخلة بالسيادة الوطنية، التأكيد على شراكة العرب والكرد في الوطن العراقي.
ألغت الثورة سياسة الانحياز نحو الغرب والأحلاف العسكرية، التي سار عليها النظام الملكي، والتي أدت إلى إضعاف العراق عسكرياً، وصدور قانون الجمعيات عام 1961، والذي بموجبه أجيزت ما يقرب من 700 جمعية.
وإجازة الأحزاب السياسية المؤمنة بالديمقراطية.
إلغاء الأبعاد الطائفية والعرقية من ممارسات الدولة الرسمية، ووضعت الأسس لإلغاء التمييز الطائفي في العراق، تلك السياسة التي مورست خلال الحكم العثماني واستمر عليها العهد الملكي.
توقيع معاهدات ثقافية واقتصادية وعسكرية مع الجمهورية العربية المتحدة.
والعمل على تقوية التضامن العربي وتنشيط دور العراق ضمن مؤسسات الجامعة العربية.
الانسحاب من الأحلاف العسكرية، وإقامة العلاقات المتوازنة مع التكتلات الإقليمية والدولية والأفرو- آسيوية، المساهمة في تأسيس منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، والذي صار سلاحاً ماضياً لحماية حقوق الدول النفطية.
إلغاء العلاقات الإقطاعية، وإلغاء قانون حكم العشائر الذي كان يخوِّل شيوخ الإقطاع بحسم القضايا الجزائية في مناطقهم.
واصدار قانون الإصلاح الزراعي وإلغاء الإقطاع. وهذا بحد ذاته ثورة اجتماعية لصالح الملايين من الفلاحين الفقراء.
إضافة إلى مجانية التعليم وتبني سياسة العدالة الاجتماعية على المستوى الطبقي والجغرافي، حيث عممت المشاريع في جميع ميادين النشاط الاجتماعي والمدن العراقية.
إن هذه المنجزات وغيرها الكثير مما تؤكده المصادر التاريخية تتكفل بتكوين رؤية منصفة تجاه الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم، تبتعد عن التحيزات والرؤى التقديسية وتعاين الأمور من منطلقات موضوعية وقراءة
مقارناتية تكشف عن كون الثورة في مدتها القصيرة امتلكت رؤية ستراتجية بعيدة المدى، في رسم معالم واضحة لمستقبل العراق، وهو ما عجزت عن تكوينه الحكومات المتلاحقة في التاريخ العراقي إعقاب ثورة تموز العظيمة التي حققت وبفترة قصيرة منجزات كبيرة، تؤشر الطابع الوطني المخلص في توجهات الثورة وزعاماتها.
وفي هذا السياق فإن محاولات التغيير في الأداء السياسي ما بعد ثورة تموز، يعبر عن انبعاثات الحنين للتجربة الوطنية الحقيقية المتمثلة بانقلاب 14 تموز والتي تحولت إلى مجرد ذكرى تاريخية أو مناسباتيَّة يتم استذكار منجزاتها وما حققها زعيمها الوطني عبد الكريم قاسم من مكتسبات حقيقية في عمر دولته القصير، لتظل تلك التجربة الوطنية الخالدة، التي اختبرت المعطيات الديمقراطية وإفرازاتها العادلة حكرا على الاستذكار التاريخي ومدوناته، التي تعيد تقييم المنجزات الكبرى للثورة  ولزعيمها.