ثامر عباس
بصرف النظر عن مدى واقعية (الاعتراضات) التي قد يسوقها البعض ضد هذه (التهمة) القاسية بحق (الثقافة) العراقية من جهة، مثلما شحنة (التحامل) على شخصية (المثقف) العراقي جراء الأخذ بهذه الانطباعات السلبية، التي تتبناها هذه المقالة وتدافع عنها من جهة أخرى، فان ذلك لا ينبغي أن يمنعنا من اعتماد صيغة (المصارحة) و(المكاشفة) للذات بهكذا نمط من الحقائق المجهولة والوقائع المغيبة،
لعل هناك من يستغرب حديثنا عن مشاعر الكره والبغض والضغينة السائدة بين أولئك الذين يعتبرون أنفسهم (صفوة) المجتمع و(نخبته)، وتحديدا تلك الشريحة التي يطيب لها وصمها بصفة (الثقافة). وربما الأكثر غرابة في هذا الشأن وصم هذه الظاهرة بمرض (عضال) الثقافة العراقية، التي يرى البعض أنها تسيء إلى سمعة الثقافة العراقية وتفرط في تعرية عيوبها وفضح سلبياتها، التي بالكاد تسلم ثقافة من الثقافات الإنسانية من التلوث بجراثيمها والإصابة بأعراضها. من منطلق كونها نتاج تجارب حية للإنسان في تفاعله اليومي مع معطيات محيطه الطبيعي وإفرازات تكوينه الاجتماعي.
وبصرف النظر عن مدى واقعية (الاعتراضات) التي قد يسوقها البعض ضد هذه (التهمة) القاسية بحق (الثقافة) العراقية من جهة، مثلما شحنة (التحامل) على شخصية (المثقف) العراقي جراء الأخذ بهذه الانطباعات السلبية، التي تتبناها هذه المقالة وتدافع عنها من جهة أخرى، فان ذلك لا ينبغي أن يمنعنا من اعتماد صيغة (المصارحة) و(المكاشفة) للذات بهكذا نمط من الحقائق المجهولة والوقائع المغيبة، خشية التسبب بنكئ جراحها النرجسية الغائرة في بطانة وعيها الملتبس، فضلا عن احراجات تناولها بالنقد المجرد والتحليل الموضوعي.
لا سيما وان (مثالب) ثقافتنا من الاستفحال والاستشراء باتت تهدد معمار شخصيتها الحضارية على نحو سافر، كما أن (عيوب) مثقفينا من الشناعة والرقاعة أضحت تنذر باضمحلال كل ما يمتلك من صفات إنسانية ومناقبيات قيمية.
وفي سياق الكشف عما تعانيه الثقافة العراقية المازومة من أمراض عضوية مستعصية، تبرز أمامنا واحدة من أخطر تلك الأمراض وأشدها فتكا وتدميرا ليس فقط في مضمار إعاقة الوعي الاجتماعي في التخلص من عيوب فطرته المزمنة وسذاجته المستديمة، ومن ثم التقدم حثيثا في مدارج النضوج العقلي والارتقاء الحضاري فحسب، وإنما في مجال كبح جماح أي نزوع ذاتي يمكن أن يتطلع للإفلات من قبضة الأفكار التقليدية السائدة، والسعي للتخلص من التصورات النمطية المهيمنة كذلك.
بمعنى أن المحيط الثقافي للمجتمع العراقي لا يكتفي برفض الأفكار والنظريات، التي تحمل طابع التغيير والتجديد والتحديث، من منطلق كونه مجتمع آثر الركود وأدمن العطالة على خلفية استبطان جماعاته لأساطير الماضي واجتيافها سرديات التاريخ فحسب، وإنما هو مصمم على طرد واستبعاد كل ما قد يحرك سواكنه وينبش مطموراته ويفحص تمثلاته.
ولهذا فقد نشأت أجيال متعاقبة من المثقفين (المعلبين) في وعيهم و(المنمطين) في مواقفهم، ممن يحسنون العيش في البيئات الثقافية التقليدية التي يسود أجوائها الركود الاجتماعي والجمود الفكري، بحيث لا يوجد هناك ما يشعرهم باضمحلال أرصدتهم المعرفية، وهشاشة منظوماتهم الفكرية، وخواء جعبتهم المنهجية، وضحالة عدتهم اللغوية، وهامشية مواقعهم الاجتماعية. بمختصر العابرة، لا يجدون ما يخشى منه على مصادر هيمنتهم على تضاريس خارطة الثقافة المحلية، التي لا يستطيعون العيش خارج أسورها وبعيدا»عن حواضنها !. وعلى هذا الأساس، فإذا ما حاول أحدا من الكتاب أو الباحثين المعاصرين، ممن أدرك طبيعة المغطس الذهني والعقلي الذي لم يبرح يتمرغ فيه دون طائل، بالاحتكام إلى ذاته والاشتغال على نفسه للخروج من متاهات وترهات ذلك المغطس، عبر الاستعانة بالبراديغمات (الفكريات والمنهجيات) الحديثة، لتجديد رؤاه عن الواقع الذي يعيش فيه، وتحديث تصوراته عن المجتمع الذي ينتمي إليه، سرعان ما يواجه بسلسلة من الممنوعات المعرفية والمحرمات الدينية التي من شانها التعتيم على أنشطته والتضييق على علاقاته، بما يحدّ من دوائر حضوره، ويقلص من مجالات تأثيره.
واللافت ان هذا النمط من (المغامرين) المغردين خارج النسق الثقافي، كلما حاول أحدهم الإمعان في سعيه الدؤوب لارتياد مجاهل الفكر، والإيغال في طموحه الجريء في ولوج عوالم المعرفة، كلما كانت الموانع الاجتماعية أمامه تتكاثر والمعوقات الثقافية دونه تتزايد.
بحيث إن دوائر الرفض لأفكاره والتشكيك بمواقفه لا تني تتسع وتتفاقم بالتناسب مع مستوى (عناده) وحدود (إصراره) على التمسك بتلك الأفكار والدفاع عن تلك المواقف.
ولعل من أشدّ تلك الموانع والمعوقات تأثيرا سلبيا تأتي ردود أفعال أقرانه من (المثقفين) التقليديين في مقدمة تلك المعارضات والاعتراضات، حيث يستشعر أولئك التقليديون ان ما يجترحه قرينهم (المغامر) من أفكار مستحدثة وما يطرحه من آراء جريئة، قمينة بفضح خوائهم الفكري وتعرية جدبهم الثقافي، الأمر الذي يستدعيهم لاستنفار كل ما في حوزتهم من علاقات وتضامنيات وتخادمات، ليس فقط لإقامة جدران من الصمت حول أعمال هذا (المغامر) أو ذاك، ومن ثم السعي للتعتيم على نصوصهم المخالفة وسريادتهم المعارضة فحسب، بل وكذلك لشحذ مشاعر البغض والكراهية إزاء شخوصهم والحض على إقصائهم وتهميشهم عن كل ما له علاقة بالأنشطة والفعاليات الثقافية، بحيث تبقى مشاركاتهم محدودة وضيقة ويستمر تأثيرهم هشا وضعيفا.