أحمد عبد الحسين
في بداية محرم من كل عام، نشهد تكاثر الدعوات لـ"تشذيب" الشعائر الحسينية وإبعادها عما يسمونه غلواً وتطرفاً وإيذاء نفس، أو تنزيهها عما يقال إنه "بدعة وممارسات دخيلة. ويبدو مما هو واقع عياناً أنّ لهذه الدعوات مفاعيل عكسية تماماً، فكلما ازدادتْ مقولات إصلاح الشعائر وتكثّر القائلين بها، ازدادت رسوخاً واجتُرحتْ أساليب جديدة في إبداء الحزن والتفجع على سيّد الشهداء وآله وصحابته عليهم جميعاً السلام.
الحقّ أن هناك أمراً قلّما انتبه إليه الداعون للتشذيب، ولو أخذوه في حسبانهم لقلّلوا من إلحاحهم، وهو أنّ طقوس الحزن الحسينيّ، مثلها مثل طقوس الحزن في كل زمان ومكان، ليس لها أصل تترسمه، ولا مثال تنتهجه، لأنها ليستْ ممارسة توقيفية "بالمعنى الفقهي"، وأن الضابط الوحيد لها هو الأمر الذي أتى في نصوص أهل البيت عليهم السلام الحاثَّة على التفجّع على الحسين وتأكيد ثواب إظهار الحزن، بل الحضّ على الجزع "الذي يكاد يكون مرادفاً لليأس" ومنه ما ورد عن الصادق عليه السلام: "كل الجزع مكروه ما خلا الجزع لقتل الحسين" .
الجزع صفةٌ مذمومة عادةً في موارد الحياة كلّها، لأنه النقيض التامّ للصبر المحمود في القرآن والسنّة. لكنّ استثنائية واقعة الطفّ في التاريخ كما هي استثنائيتها في الوجدان كسرتْ هذه القاعدة، فأصبح الجزع لا جائزاً أو مستساغاً فحسب بل أمراً مندوباً.
ومن صفات الجازع على مصيبةٍ أنه لا يملك نفسه ولا يسيطر على مشاعره، وليس بإمكانه أن يعود إلى مثال سابق ليمارس جزعه وفقاً له. الأمر الوحيد المتوقّع من الجازع هو أنه لن يراقب الناس إن كانوا يقبلون بجزعه أم يرفضونه، يصوبونه أم يخطئونه.
كلّ ما يجري من شعائر يندرج تحت مفهوم الجزع، ومن الطبيعيّ أن تتكثر مصاديق هذا المفهوم، إذ لا وصفة جاهزة للتعبير عنه.
الأمر في الأساس ليس مبنى تعبدياً بالمعنى الذي يمكن أن نتحدث فيه عن الصلاة والصوم وسائر العبادات التوقيفية المنصوص عليها تفصيلياً، بل هو مرتبط أشد الارتباط بما هو اجتماعيّ ونفسيّ. ومن العسير ضبط مشاعر الحزن وتقنينها.
دأب شيعة الحسين منذ القديم على إظهار جزعهم على حسينهم، ولن تتوقف أساليب التعبير عن هذا الحزن والجزع أبداً. وستأتي دعوات للتشذيب وتذهب من دون أن يكون لها أدنى تأثير في نهر الحزن الجارف الذي وحده يحفر مجرى خاصاً به.