د.يحيى حسين زامل
الهابتوس في "القاموس الأنثروبولوجي الحديث" كلمة يونانيَّة تعني عند "افلاطون" طريقة في الوجود التي يصعب تعديلها أو تحويلها، واستعملها "توما الاكويني" و"مارسيل موس" بمعنى العادة واستعملها "دوركايم" بمعنى الطبع (القاموس 605). و"الهابتوس" عند "بورديو" مجموعة المهارات والموارد الاجتماعيَّة التي تحكم كيفيَّة تفاعل الناس مع العالم. ويتشكل "الهابتوس" تاريخيًا واجتماعيًا من خلال التنشئة الاجتماعيَّة، وعبر التعلم من المجتمع المحلي والمدرسة والأسرة، وكل هذه الوسائل والآليات هي المسؤولة عن صوغه في أي ثقافة، لذلك تُوصف بعض الثقافات بطابع الحزن أو المرح أو الفهلوة ، أو الكرم، أو يقال إنَّ ثقافته تقليديَّة أو حديثة أو متأثرة بالثقافة الإسلاميَّة، كما في بعض الشعوب العربيَّة.
والراسب الثقافي هو العنصر - ظاهرة أو مركب ثقافي - الذي تغيرت وظيفته الأصليَّة بمرور الأيام وأصبح مجرداً، إما بسبب طول المدة أو تغير الوظيفة، لم يتطور بنفس السرعة التي تطورت بها الثقافة ككل. فأصبح غير متلائمٍ مع الثقافة السائدة ولا يمتلك القدرة على مسايرة الحياة الجديدة، فظلَّ راسبًا في قاع الثقافة يجهل أكثرنا جذره أو مصدره ومعناه الحقيقي. لذلك فإنَّ هناك الكثير من الظواهر والعناصر الثقافيَّة والمركبات المستعملة اليوم يجهل أصلها أو سبب وجودها، ولكنها على أي حال موجودة وباقية ومتداولة، والسبب في ذلك الغموض أنَّ وظيفتها السابقة اختفت، وأصبح لها وظيفة أخرى بسبب تطور الأحداث وتعقد الحياة.
لقد ارتبط مصطلح "الراسب الثقافي" بالنظريَّة التطوريَّة، ولكنه انُتقد بشدة من قبل "المدرسة الوظيفيَّة"، التي تؤكد على وظائف العناصر والمركبات الثقافيَّة، لذلك يرى رائد الوظيفيَّة "برنسلاو مالينوفسكي": (أنّه لا وجود لعنصر ثقافي لا أهميَّة له، فجميع العناصر الثقافيَّة تؤدي مع بعضها الآخر وظيفة في البناء الثقافي). والحال أنَّ مشتغلي هذا المصطلح لا ينفون أهميَّة العناصر الثقافيَّة في أي مجتمعٍ أو ثقافة، ولكنهم يرون أنه مختفٍ تحت عنصرٍ آخر، وتحولت وظيفته إلى وظيفة أخرى.
ومن الرواسب الثقافيَّة في المجتمع العراقي طابع الحزن أو ثقافة الحزن السائدة في الحياة والفن والأدب والغناء، فتجد الحدث الحزين هو الأبرز والثابت في الذاكرة العراقيَّة، والنص الشعري الحزين هو الذي يطرب له المستمع، ويذوب فيه، ويحفظه ويكتبه على كتابه أو مذكراته أو سيارته، والأغنيَّة الحزينة هي التي تستمر مدة أطول في الذاكرة وتؤثر فيها، وربما تجدها منحوته ومنقوشة في مدونته وسردياته الثقافيَّة، التي ترسخت في العمق الثقافي والاجتماعي.
وحتى في تلاوة القرآن الكريم هناك الطريقة العراقيَّة الحزينة، الطريقة التي ابتدأت بحسب بعضهم منذ العصر العباسي عندما أصبحت بغداد ومدارسها قبلة للعالمين، فاشتهرت مدرسة بغداد وواسط والموصل متأثرة بالمحيط الاجتماعي والثقافي. وقد وصف الرحالة "ابن جبير" تلك المجالس الشهيرة أثناء زيارته لبغداد، لا سيَّما في مجلس "ابن الجوزي": "إذ يبتدئ القراء وعددهم أكثر من عشرين قارئًا إلى قراءة القرآن بالتناوب، بنسقٍ وتطريبٍ وتشويق. ويصف مجلس اخر: "فابتدروا القراءة على الترتيب وشوقوا ما شاؤوا، واطربوا ما أرادوا، وبادرت العيون بإرسال الدموع. ولذلك عُرفت التلاوة العراقيَّة دائما بالحزن والشجن العراقي السرمدي.
ولا شك أن هابتوس الحزن الأكبر كان في المجالس والرثاء على الإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء من كل عام، ومما يروى عن الإمام "جعفر الصادق" حين دخل عليه "ابو هارون المكفوف"، فطلب منه الإمام أنْ ينشده في رثاء الإمام الحسين (ع) بقوله: أنشدني فأنشدته، فقال: لا، كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره، (أي بالطريقة العراقيَّة)، قال: فأنشدته: أمرر على جدث الحسين * فقل لاعظمه الزكيَّة. قال: فلما بكى أمسكت، فقال: مر، فمررت، ثم قال: زدني زدني، قال: فأنشدته: يا مريم قومي فاندبي مولاك * وعلى الحسين فاسعدي ببكاك، قال: فبكى، وبكى كذلك أهل بيته. وهكذا كان تأثير المدرسة أو الطريقة أو البيئة العراقيَّة في العديد من الآداب والفنون، فكيف بفن الرثاء وهو قمة في الحزن والشجن.
ويرجع الباحث فاضل الربيعي تفسير هابتوس الحزن هذا في كتابه (المناحة العظيمة) إلى زمنٍ قديمٍ جداً، ومتجذر في الثقافة العراقيَّة القديمة، حينما كان يرثي العراقيون الإله تموز السومري/ البابلي، وعشيقته عشتار في المعابد وفي الطرقات على شكل مواكب، واستمرت تلك المناحات في كل عام من شهر تموز، كما وصف "هيرودت" ذلك حين زار مملكة بابل. وكذلك الحزن على صلب المسيح والمناحة والبكاء عليه، ولاحقاً المناحة على الإمام الحسين في عاشوراء من كل عام.
إنَّ طقوس النواح هذه، لا تزال مستمرة في الراسب الثقافي طوال عصورٍ وعصورٍ حتى مع تغيّر موضوعاتها، وتبدل صور أبطالها وضحاياها. كما تعطي في السياق ذاته، فكرة أخرى أقل عموميَّة عن الطرائق والأشكال التي تبلورت فيها المناحة الجماعيَّة في عصر الإسلام، وذلك مع وقوع حادثة الاستشهاد البطولي للإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عام 61 هجريَّة. أي بعد ما يزيد على عشرة قرون من زيارة هيرودوت لبابل ومصر. (ص 38)، وإنَّ العراقيين المعاصرين، هم أحفاد ثقافيون للسومريين والبابليين والآشوريين، حتى وإنْ تباعدت أصولهم وجذورهم وسلالاتهم القبليَّة والأسريَّة، لأنهم يشتركون مع أجدادهم ـ مع اختلاف العقيدة والدين ـ في مناحة واحدة عظيمة مستمرة، تتجلى فيها واقعة كربلاء، كما لو أنها هي ذاتها مناحة البابليين على تموز (ص 20).
كما أنَّ السبب الجوهري لتمّيز الغناء العراقي بنزعته الحزينة، لا صلة له بوقوع مآسٍ وأحداثٍ مفجعة في التاريخ الاجتماعي والسياسي، وإنما بوجود تقاليد أدبيَّة مستمرة ومتواصلة، استمدت قوة زخمها من هذه الثقافة الدينيَّة. والغريب أنَّ الكثير من الألحان الموسيقيَّة التي يعتمدها المغنون العراقيون اليوم، ذات إيقاعات مستمدة من إيقاعات المناحة على الحسين، أي أنها تنتمي إلى تقاليد الغناء الديني الحزين في الريف والبادية على حد سواء، ليس مرّده وجود أحداثٍ واقعيَّة مفجعة بالضرورة، ألمّت بالسكان ودفعت المغنين والمنشدين إلى استذكارها بألمٍ وحزنٍ، إنما هو استمرارٌ لتقاليد أدبيَّة بكائيَّة راسبة في الوجدان الشعبي (ص18). ويعدُّ الباحث الدكتور فاضل سوداني في مقاله (عذابات تموز) أن موت وقيامة الإله (تموز) أحد الطقوس التراجيديَّة المهمة بسماته الاسطوريَّة والطقوسيَّة والفلسفيَّة، فهو الخزين التراجيدي في روح إنسان وادي الرافدين. ويعدّ كل هذا حتى الآن من أرقى وأغنى ما كتب في مثيولوجيا شعوب وادي الرافدين.
وعلى وفق هذا التفسير، وبصرف النظر عن صحته بشكل كلي وتطابقه مع الواقع، نكون قد توصلنا إلى خيوط أو جذور هذا الحزن في الثقافة العراقيَّة، أو على اﻷقل لمسنا بعضاً من تلك الاستنتاجات التي نرتجي فيها الحقيقة.