الدروس المستفادة من ثورة الحسين

ريبورتاج 2024/07/17
...

 وجدان عبدالعزيز

قد نقف في حيرة حين دراسة شخصيَّة الإمام الحسين، لاسيما وهو قاد معركة غير متكافئة من ناحية العدّة والعدد، فجنده كانوا يُعدون بالعشرات أمام جيش يُعدّ بالآلاف، ناهيك عن العُدة، وفي أرض لم تكن قريبة من الناحية النفسية لجيشه، هذه معطيات تؤشر لغلبة جيش العدو، لكنَّ شخصية الحسين المؤثرة بين أفراد جيشه، كانت لها القدرة على احتواء أنفسهم وتوجيهها، نحو الثبات والبسالة في الصمود، فهو يمتلك العديد من السمات والخصائص الفاعلة والمثيرة للاهتمام، والحضور الشعبي الذي يتمتَّع به الحسين عليه السلام، وقدرته على التأثير في الآخرين إيجابيًّا، وعاطفيًّا، وثقافيًّا،

 وكان يتمتع بقدرات قيادية مميزة، كما أنَّ لديه القدرة على الإقناع، ونقل المعلومة للآخرين بكل يسر وسهولة، كما أنَّ لديه القدرة على التحاور مع الآخرين، وجذب انتباههم وإقناعهم بالأفكار والأهداف والخطط، كما أنَّ لديه القدرة على التفاعل مع المجتمع بمختلف شرائحه ومكوِّناته، وهذا التفاعل يسهم في دفع الآخرين للمتابعة، بل وفي بعض الأحيان الاقتداء، لأنَّ الحسين عليه السلام يتَّصف بقوة التفكير والبصيرة والقدرة على الإقناع، والمبادرة والشجاعة في اتِّخاذ القرارات اللازمة في الأوقات المناسبة، والتأكُّد من تطبيقها، لماذا كان الحسين عليه السلام هكذا؟ أولا: لأنه وُلِد في بيت هو مهبط التنزيل، في بقعة طاهرة تتصل بالسماء، وترعرع بين شخصيّات مقدّسة تجلّلت بآيات الله، ونهل من نمير الرسالة عذب الارتباط مع الخالق، وصاغ لبنات شخصيته نبي الرحمة (صلّى الله عليه وآله) بفيض مكارم أخلاقه وعظمة روحه، أما الشجاعة فإنّه ورثها عن آبائه وتربّى عليها ونشأ فيها، وهو الشّجاع في قول الحقّ والمستبسل للدفاع عنه، فقد ورث ذلك عن جدّه العظيم محمّد (صلّى الله عليه وآله) الذي وقف أمام أعتى قوّة مشركة حتّى انتصر عليها بالعقيدة والإيمان والجهاد في سبيل الله تعالى، وكذلك عاصر أباه أمير المؤمنين عليًّا عليه السلام، وكيف صارع الضلال والانحراف قولًا وفعلًا، وأيضًا وقف مع أخيه الإمام الحسن عليه السلام وكيف قارع جبروت معاوية وضلاله، وهكذا خرج الحسين عليه السلام، لطلب الإصلاح، وإحياء رسالة جدّه النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، والوقوف في وجه الظلم والفساد، لذا فإنَّ قضية الحسين عليه السلام، التي حدثت منذ آلاف السنين بقيت منارات إنسانية كونية، لأنها ثورة ضد الظلم والطاغوت، لأثرها الكبير والمؤثر في الوجدان الشعبي، خصوصاً أنها كانت مليئة بالفصول المأساوية وزاخرة بالصور التراجيدية، التي تثير في النفوس الأسى العميق، كونها إيثاراً بالنفس من أجل أهداف سامية أكبر من حياة الإنسان المحصورة بسنين العمر، فمثلًا تضحية العباس وهو في أرض المعركة وقد قُطعت يمينه، يقول أدافع أبدًا عن ديني وعن إمام صادق اليقين، حتى يسقط مضرجًا بدمائه الزكية، ليعلن براءته من الطاغوت اليزيدي الظالم، وتكون تضحيته خالدة في درسها الإنساني، رغم حزن الفقدان بالموت، وهكذا بقضية الطفل الرضيع وقتله ظمآنًا، وسبي النساء وحرق الخيام وترك المريض والطفل والمرأة في العراء مع فقدان الماء ناهيك عن مؤن الغذاء, فالشعور بالحزن أكثر من مجرّد الشعور بالأسى فحسب، إنه ردّ فعل انفعالي طبيعي إزاء فقدان كبير، فالحزن يحدث عند وقوع تغيُّرات كبيرة في حياة الناس، وهذا ما أثارته ثورة الحسين وواقعتها على أرض كربلاء، وبروز جيش يزيد الجرّار أمام قلة عدد أصحاب الحسين عليه السلام كما أسلفنا، ثم هناك الجرائم التي ارتكبها الجيش المعادي ضد الحسين وأصحابه بمنع الماء، ومن ثم قتل الطفل الرضيع عبد الله وحرق الخيم وما سبّبه من رعب لدى النساء والأطفال، حيث بدأت تظهر هذه التراجيديا وآثارها عبر السنين، فكانت هذه المشاعر هي الأساس في الرثاء الحسيني، والذي تخطى هذه المؤثرات إلى المطالبة بالثورة، تقول الدكتورة بنت الشاطئ: (ما أحسب أنَّ التاريخ قد عرف حزناً كهذا طال مداه، حتى استمر بضعة عشر قرناً دون أن يفتر، فمراثي شهداء كربلاء هي الأناشيد، التي يترنّم بها الشيعة في عيد حزنهم يوم عاشوراء في كل عام، ويتحدّون الزمن أن يغيّبها في متاهة النسيان)، فكربلاء تعني الثورة، تعني الحرية، تعني مبادئ الخير والصلاح التي جسّدها الإمام الحسين عليه السلام على ثراها، وهكذا أصبحت كربلاء النشيد الحزين عند الشعراء، لتصبح الأنشودة الحماسية في التنديد بالظلم، فكل الثورات التي أعقبت ثورة الحسين استمدت من كربلاء هذا المعنى لتصبح كربلاء المثال والرمز الرافض للظلم، وكانت معين الشعراء في الإبداع الشعري الحزين الذي يحمل روح الثورة، وشعارها الخالد (هيهات منّا الذلة).. فلماذا خُلّدت ثورة الحسين؟، الجواب كونها أصبحت درساً بليغاً وعظة واسعة النطاق أفهمت الناس معنى الجهاد وحقيقته وأوقفتهم على واقع الدفاع عن المبدأ والعقيدة وأنه يجب أن يبذل في سبيل الدين والمحافظة على نواميسه كل غال ونفيس..! ليس هذا فقط، إنما دماء في سبيل الحرية وضد ذل العبودية، فارتفعت أن تكون ذات فضل على كل قوى التحرر العالمية عبر التاريخ، وبالأخص فضلها الجزيل على العالم الإسلامي كافة وبلا استثناء، حينما خاطب أعداءه:
        إن كان دين محمد لم يستقم
                              إلاّ بقتلي فيا سيوف خذيني
فمصرعه عليه السلام صار حياة جديدة لروح الإسلام المحمدي المستقيم . وهكذا صارت مأثرة الدماء الحسينية نبراسًا لكل أحرار العالم برفض طواغيت الأرض وبها يخلد شعار الحسين عليه السلام... (هيهات منّا الذلة).. لتكون الحرية في مقتل الحسين ليست تفلتا من القيم، وإنما هي انسجام تام مع النواميس والقوانين الاجتماعية والكونية.