عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع في بيروت صدر للباحث الجزائري في شؤون الفكر الفلسفي الدكتور عبد الرزاق بلعقروز كتابه (روح القيم وحرية المفاهيم)، ونال هذا الكتاب جائزة الشيخ زايد للكتاب - فرع المؤلف الشاب لدورة سنة 2018 التي أُعلن عن الفائزين فيها سنة 2019.
جاء الكتاب إلى ستة فصول اختار المؤلف وضعها في قسمين؛ الأول منها وعنوانه “نحو مبادئ أخرى لقيادة العقل”، أما الثاني فعنوانه “من كدس المصطلحات إلى إبداع المفاهيم – مناهج ونماذج”، وفي كليهما نجد أنفسنا بصدد رغبة المؤلف باستشراف القادم بغية الانتقال من حالة قائمة إلى أخرى مرجوّة تبشِّر بقيمتها ملفوظات ترد في عنوان الكتاب الفرعي مثل: “نحو السير...”، وكذلك نجدها في عنوان القسم الأول من مثل: “نحو مبادئ..”، ويتجلى أيضاً في عنوان القسم الثاني من مثل: “من كدس المصطلحات إلى إبداع المفاهيم..”. ما يعني أن مشروع هذا الكتاب يتوسَّل رؤية مغايرة تروم التجديد في طبيعة العقلية العربية وهي تفكر وعيها المفاهيمي.
فقدان الأسس
لعل مقدِّمة الكتاب ترسم لنا خطاطة عما يريد هذا الكتاب قوله، فالمشكل هو حالة القلق من فقدان الأسس التي يمنى بها العقل الإنساني ما يعني ضرورة البحث عن مبادئ أخرى لقيادة العقل، ولذلك يروم المؤلف تجذير مبادئ ليس في نسقعلمي مخصوص وإنما في نسق آخر يعطي للقيمة دور المؤسس للمعرفة بعامة وللمعرفة النفسية والإعلامية والعملية خاصة ليس من خلال اختزال الإنساني في الطبيعي واختزال هذا الأخير في الرياضي، فهذا المنحى هو أحدى مصائب العقل بالذات، بدلاً من ذلك لا بد ضرورة من الميل إلى مشروع للهوية الإنسانية بما هي هوية قيمية أخلاقية، ومن ذلك فتح صلة القيم بالعلوم الاجتماعية؛ خصوصاً في علم النفس رغم أنها صلة ممزقة.
ومن ناحية أخرى، يتعرّض المؤلف إلى موضوع النقد الأخلاقي لحقبة الحداثة الفائقة أو الحداثة الإعلامية بوصفها لا تقول ما تقوله وسائل الإعلام عن الحياة الإنسانية. إن الإعلام يشكل نسْقاً إدراكياً للعالم، لكنه غالباً ما يعمل على إفقاد قيمة الحقيقة الواقعية، ويرفع قيمة المختلق والمختلقات، لا سيما أن المعرفة الإعلامية أضحت أداة في يد إرادات القوى الكبرى لأجل التملك والحيازة، ولهذا السبب يقول المؤلف:”إن المسلك هو الإعلام الموضوع بالحياء وليس المنفصل عنه والمستغرق في ثقافة الجسد وإرادات القوى لأجل التملك والهيمنة”.
نقد الفعل
ولا تبدو هذه الفرشة النقدية متكاملة من دون نقد الفعل، لا سيما إذا كان “الفعل” منفصلاً عن القيم، فهو إذا كان كذلك لا يقوي الذات ولا يثبتها؛ بل ولا حتى يفجِّر مكنوناتها الروحية لكي تنطلق وتسود بحيث يرفعها إلى مستوى التحديات التي باتت تسم الحياة المعاصرة.
ولكي ينزل المؤلف هذا المضمون منزلة الحقيقة يدرس مشروع المفكر البنجابي محمد إقبال (1877 - 1938) الذي اقترح إبداع إمكانات جديدة في الحياة، ويخلص بلعقروز إلى أن فلسفة الفعل عند محمد إقبال هي روح فكره، وشرط لانتقال السلوك من دائرة العبث إلى دائرة المعنى، ومن الانفصال عن القيمة إلى التحقق بها من دائرة الالتزامات الشكلية إلى دائرة التفاعلات الوجدانية. كما أن فلسفة الفعل لدى إقبال تقدّم علاجاً ناجعاً للتعارض القائم بين إنكار الذات والعقلانية التأملية وممارسة الفعل يحقق للذات حريتها وقدرتها، فضلاً على أن فلسفة الفعل وبوصفها قوة إنسانية حدّدها محمد إقبال على أساس علم الكونيات الإسلامي.
كما أسلفنا من ذي قبل، يعتقد عبد الرزاق بلعقروز أن ثمَّ كدساً من المصطلحات يهيمن على حركيّات الفكر والفلسفة، ولا بد من نقد هذا الكدس وغربلة سمينه من غثه للوصول إلى إبداع المفاهيم بوصفها “الذخيرة التي توصل إلى الحرية والحق في الاختلاف”، مع تأشير المؤلف إلى أن “الفكر العربي انخرط في تشغيل المفاهيم وكدَّس المصطلحات ونسي، ضمن هذا المسعى، قوانين تشكّل المفاهيم”، ويذهب بلعقروز، من الناحية التطبيقية، إلى دراسة حالة الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الذي “أخذنا باليد إلى ورشة صناعة المفاهيم الفلسفية، واستخراج الأدوات التي يستخدمها الفيلسوف في صناعته المفهومية، منبهاً العقل العربي إلى أهمية الوعي بالمنهجية العلمية في مكاشفة المفهوم لأجل الخروج من حالة التلقي المفاهيمي إلى حالة الحرث في أرض الفكر، واستنبات مفاهيم أصيلة لتسري في الثقافة العربية”.
المخالقة
من ناحية أخرى يبقى بلعقروز في فضاء المفاهيم، ويصطفي مفهوم “المخالقة”، ويرى فيه أنه “يقابل مفهوم المواطنة حيث يستغرق مطلبه”، بل “يوسِّع مفهوم الانتماء بأن يتعدّى فكرة المواطن إلى فكرة الإنسان الصالح”، يقول طه عبد الرحمن في كتابه (ما العمل؟): “إن الإنسان أحوج إلى المخالقة منه إلى المواطنة”. ومن ذي قبل كان الإمام علي بن أبي طالب وفي معرض خطابه إلى عامله مالك الأشتر الذي اصطفاه على مصر قال له: “الرعية صنفان؛ إما أخ لك في الإسلام أو نظير لك في الخلق”.
ويمضي بلعقروز إلى دراسة مفهوم آخر هو “إنسان أحسن تقويم” بوصفه نموذج الإنسان في حالة الكمال الفطري”. ويدرس التكامل الأخلاقي وأثره في إنشاء الشخصية الارتقائية من منظور فلسفة أحسن تقويم، ويروم مسعاه إلى “دراسة أهمية التكامل الأخلاقي ما بين العلم والعمل أو المعرفة والأخلاق، وبيان الأصر الإيجابي لهما في بناء الشخصية وتكامل أبعادها”. ليركز، تالياً، على النظر في مفهومين هما “التخصص” و”الموضوعية”.
إن رهان هذا الكتاب، والكلام للمؤلف، هو “التذكير بقيمة أن تتحرّك جمرة القيمة والوجدان الأخلاقي لكي تتحرّر العقول من ميلها نحو الغفلة ونسيان الحرية في العلوم والمفاهيم، ونسيان مسؤولية الشاهدة الفكرية لأنه لا حرية من غير مسؤولية”.إلا أن الاشتغال على أنطولوجيا صناعة المفاهيم كما يفعل عبد الرزاق بلعقروز في فصول كتابه هذا تذكرنا بما كان يرومه جيل دولوز وصديقه فلكس غيتاري وكلاهما كان يقول بأن مهمة الفلسفة هي صناعة المفاهيم لا بطريقة آلية باهتة إنما إبداعية خلاقة، وما أحوجنا في الثقافة العربية إلى هكذا اشتغال في ظل فوضى ظهور المفاهيم والمصطلحات التي تريد الهيمنة على الوعي العربي من دون
تفكر ولا تأمّل.