الممكنات التعبيريَّة والتوق التأمُّلي

ثقافة 2024/07/23
...

  د. سمير الخليل


تعيد نصوص مجموعة "انجيل موكا" للشاعر علي فرحان الصادرة عن اتحاد الأدباء إلى مساحات من التوق والتأمّل الوجودي، هذه المساحات التي تمثّل جزءاً حيوياً من خصائص تشكيل الرؤية الشعريّة للعالم والأمكنة والشواخص والأفكار والمعاني، وتتّسع مديات هذا التأمّل ليشمل كلّ المساحات المنظورة وغير المنظورة، المحسوسة والمجرّدة، الظاهرة والخفيّة، وتتوغل النصوص في مساحات متوهّجة تعكس نثارات الثنائيات المتضادّة: "القوّة والضعف" و "الجمال والقبح" و "الحاضر والماضي" و "المكان والزمان" و "الديمومة 

والزوال". 

وقد صاغ الشاعر أبعاد الثنائيات كنوعٍ من البحث والتوق عن الحقيقة والموقف، وامتزج هذا الاشتغال على تأمّل قائم يضاهي قيمة السؤال، فكانت معظم النصوص تتماهى وتتجسّد على شكل سؤال أو حوار أو تأمّل 

خفي. 

يستثمر فرحان كثيراً من الظواهر والممكنات التعبيريّة وصولاً إلى نص مكتنز تمثل الفكرة جوهره والرمز بعده الفنّي ويمثل التأمّل وسيلة في الكشف ويبتعد كثيراً عن الغموض المفتعل ولعبة الألفاظ فالنص عنده منشغل حد البوح في الكشف عن توتر اللّحظة الشعريّة التي تحيل إلى واقع يحتاج التأمل والسؤال والبحث عن الغائب. 

ونلحظ اهتماماً مركزيّاً بماهية الحب وصورة المرأة التي تتوق إليها الذات الشعريّة، وتُصاغ النصوص وفق رؤية مثاليّة على وفق تناص يحمله العنوان بوصفه نصّاً موازياً مستوحياً لنسق ارتكز على متوالية من التناصّات الدينية والوجودية والإحالات والإشارات التي تشكّل اشتباكاً بين المنحى التأمّلي والمنحى التناصّي، وتتخذ من مفردة "الإنجيل" كمدوّنة للتأمل الذي يمزج بين مثاليّة الرؤية والبحث عن السؤال الواقعي وهو يتوّغل بعيداً في رسم شكل الحب، وتنويعاته حتى تحوّلت المرأة في كثير من القصائد إلى فكرة متعالية وإلى مساحة للتحريض على الجمال والمواقف باذخة 

المعنى. 

ويمكن الاستدلال على شكل التوظيف التساؤلي للمكان بوصفه ليس ملاذاً أو حيّزاً فيزيائياً فحسب، بل هو الحاضنة او المؤشّر الوجودي، وعلى وفق هذه المثابات تتشكّل نصوص المجموعة لتعبّر عن توق وسؤال وبحث وصياغة لحظة شعريّة تشتبك مع حركية الواقع الملتبس، ويسعى الشاعر إلى فك عناصر ومظاهر هذا الاشتباك بأسلوبه الشعري المتفرّد، ففي نص (ريبة) يتوغّل في عوالم لتجسيد مثل هذه الرؤى: "أسير إلى جهة لست فيها/ وألمح خطوتها تتضاءل في الروح أو تختفي في الهواجس/ وأقرع نارنجتي بالغناء.. تساقط على شفتيّ حليب البكاء/ 

ويا حنطةً في إنائي/ ألمح خطوتها تتضاءل أو تستحي أن تدوس القميص المطرّز/ بالانتظار/ تعالي، فها جهتي سيقتلها الجدب والاتّجاه اللّعين/ ستقتلها الريح والخطوة المسرعة/ أرى شجراً مسرعاً نحو أمواهك الصامتات/ أرى وطناً يابساً في جيوبي، تطقطق أوراقه/ حين أبكي" ص: 7.  وليس من المتعذّر اكتشاف قدرة الشاعر على تكوين لغة شعريّة مفارقة ومختلفة تتعاضد مع الفكرة المراد تجسيدها أي أنّ الملفوظ اللّساني مرتبط بخصوصيّة الفكرة، ويتعالق 

معها لينتج الرؤى والإشارات بعيداً عن أي اشتغال يربك المعنى وهو ابتعاد عن التأنّق المفتعل، أو التزويق الشكلي، فالفكرة مرتبطة بالأداء التعبيري واللغوي وهناك انعكاس متبادل بين هذه الثنائيّة التعبيريّة.