تحليل أيديولوجي وسسيوثقافي لإخفاق الحزبيَّة الإيرانيَّة

قضايا عربية ودولية 2024/07/24
...

• جواد علي كسار                            

بغياب الحزبية أو ضعفها، تعد الجناحية هي نظرية العمل السياسي في إيران اليوم. وهذا ما يفسر لنا الحضور المكثف لمصطلحات "الجناح" و"الأجنحة" و"الجناحية" في الحياة السياسية الإيرانية، من دون أن يعني ذلك تماماً، غياب الحزبية ووعي أهميتها وضرورتها في السياسة، ولاسيّما إبان المواسم الانتخابية الأساسية الأربعة في إيران.

(يُنظر على سبيل المثال أبكر محاولة على هذا الصعيد: الأجنحة السياسية في إيران: 1981 ـ 1997م، د. سعيد برزين، ط2، منشورات مركز، طهران، 1999م. يُعدّ هذا العمل أول جهد تنظيري صدر في كتاب، عن خريطة القوى السياسية في إيران ما بعد الثورة الإسلامية، قدّمها من خلال نظرية الأجنحة، وقد بلغ من كثافة الإقبال عليه رغم صغر حجمه، أنه طُبع مرتين وبأكثر من خمسة آلاف نسخة في غضون شهرين اثنين فقط).

حزبا الحركة الدستورية
فرغم امتداد الحياة الحزبية في إيران بالمعنى الحديث، إلى قرنٍ من الزمان، تحديداً إلى عصر الحركة الدستورية سنة 1906م، فلم تزل المقولة التي تشيع على الألسنة مثقلة بالسلبية: "الحزب لا يستقرّ أساساً في إيران ولا يدوم له قرار"، وإذا صادف أن تكوّن وانطلق فسرعان ما يزول. يشهد على هذا التأريخ القلق للحزبية الإيرانية، الخريطة الحزبية لعـصر الحركة الدستورية، تلك الخريطة التي استقرّت نهاية المطاف على حزبين كبيرين، استقطبا إليهما القوى السياسية الفاعلة، هما حزب "دموكرات عاميون" و"اجتماعيون اعتداليون"؛ الأول ثوري انقلابي يدور حول مواقف قومية حادّة من قبيل التأطّر الكامل في نطاق الآرية والقومية الفارسية، ونعت الفتح الإسلامي لفارس بالغزو العربي الوحـشي، والدعوة إلى تنقية اللغة الفارسية من المفردات العربية، وتغيير الأبجدية الفارسية من العربية إلى اللاتينية، والغربنة الكاملة وما إلى ذلك، كما كان يجهر بذلك حسن تقي زادة (1878 - 1919م) من كبار قادة هذا الحزب. والثاني يُنعت بأنه معتدل يميل إلى التوازن والمحافظة (يُعدّ السيد حسن تقي زادة الذي خلع عمامته وتخلى عن زي رجال الدين، من أبرز دعاة التغريب في إيران. طُبع من آثاره (12) مجلداً، لكن ربما كانت أفضل نافذة على حياته، هي مذكراته التي صدرت، بعنوان: حياة عاصفة).
يكتب أحد المعاصرين لتلك المرحلة محمد تقي بهار (1884 - 1951م) الذي منحته الثقافة الفارسية التبجيلية لقب "ملك الشعراء"؛ يكتب عن هذين الحزبين: وُجد في إيران عام 1908م حزبان، أحدهما ثوري والآخر اعتدالي، اكتسب كلاهما الصفة الرسمية، الأول باسم "دموكرات" والآخر باسم "اجتماعيون - اعتداليون". كان الديمقراطيون ينعتون خصومهم بالرجعية، وينعت المعتدلون خصومهم من الحزب الآخر، بالتطرّف والثورية، وقد تبلغ هذه النعوت أحياناً حدّ التهم الدينية، بما في ذلك التكفير.
في مدوّنته عن تأريخ الأحزاب السياسية في إيران، يذكر بهار أنَّ الأحزاب السياسية تخضع لتقسيمات عدّة، لكنها تعود أساساً إلى اتجاهين؛ الأول هو التجدّد والتطرّف، والآخر هو المحافظة والرجعية، والأمر لا يختلف في إيران (يُنظر: موجز تاريخ الأحزاب السياسية في إيران، ج1، ص 8 ـ 11).

القراءة الاتهامية
لقد ألقت هذه السلبية في الحاضنة التأسيسية للحزبية الإيرانية؛ ألقت بتبعاتها على الحياة الحزبية في الجمهورية الإسلامية، وتحكّمت إلى حدّ بعيد بمصير العمل الحزبي في إيران ما بعد الثورة، على النحو الذي اكتسبت فيه التنظيرات المعادية للحزبية، أبعاداً مركبة نفسية ودينية واجتماعية، متهمة الأحزاب ونعتها بأبشع التهم، تبدأ من رميها بالمرض والسلطوية، وتنتهي بوصمها بالتبعية للخارج والخيانة، كما نلحظ ذلك من خلال شواهد كثيرة تناولت الحزبية الإيرانية في عصر الجمهورية الإسلامية.
يبدأ أحد الكاتبين الأسطر الأولى من مقدّمة كتابه عن أحد أحزاب الجمهورية الإسلامية، تذكيرنا بأنَّ: "خلفية تكوين الأحزاب والجماعات على النسق القائم الآن في إيران، يعود إلى عصر الدستورية". ثمّ ينعطف بلغة الفتوى ومنطق الجزم وليس بمنهج التحليل الاجتماعي والثقافي والسياسي فضلاً عن التأريخي التوثيقي، وهو يرمي تلك الأحزاب بالماسونية، وأنها مظهر من أبرز مظاهر هيمنة الحداثة الغربية وزحفها على إيران، قبل أن ينعطف لإصدار مجموعة "فتاوى" فكرية عن الحزبية في الغرب، ليستنتج بأنَّ الحزبية عامة، انطلقت لتحقّق غرضين:
الأول: "مواجهة المعتقدات الدينية للناس، وإيجاد مسافة بين السياسة والديانة".
الثاني: "إيجاد الاختلاف بين مختلف طبقات الشعب، والقوميات"، ومن ثمّ فإنَّ أحزاب ما بعد الثورة "لا تُفكر إلا بالسلطة" لأنها لم تزل: "تعيش رواسب الحزبية الغربية، وتمارس دورها تحت الوطأة النفسية لتلك الحزبية" (يُنظر: حزب كوادر البناء: أول حزب من صناعة السلطة، مؤسّسة قدر الولاية، طهران، 2012م، ص 7 ـ 9).
لا يمارس هذا الكاتب وأمثاله عملية تحليل من أي نوع كان ينسجم مع الموضوع عدا أوهامه، وهي تقوده إلى مثل هذه النتائج؛ بل يستند إلى نصوص صدرت بمناسبات مختلفة، تحوّلت إلى مرجعيات جاهزة للحكم على ظواهر مركبة كالظاهرة الحزبية، في طليعتها نصوص مؤسّس الجمهورية الإسلامية السيد روح الله الخميني، إذ يحوّل هذا النمط من الكاتبين هذه النصوص إلى مطلقات كالفتاوى، مع أنَّ الغريب أنَّ صاحب النص نفسه يتحدّث عن الظاهرة الحزبية بلغة التحليل الاجتماعي والسياسي، ويستعمل مصطلحات "احتمل" و"بحسب رأيي" كما فعل في واحد من أبرز نصوصه عن الحزبية (يُنظر: صحيفة الإمام، ج6، ص274 ـ 276).
لذلك نراه وهو لا يزال بمقدّمة كتابه عن حزب "كوادر البناء" يحسم موقفه منه، بإصدار حكم كلّي مطلق، يقول فيه نصاً: "كانت حركة هذا الحزب ليبرالية المنشأ، هيمنت على مواقفه ومساره العملي وما تزال، صبغة ورواشح الثقافة والسياسة الغربية بالكامل"، (حزب كوادر البناء، المصدر السابق، ص 12).

إفرازات التنوير والحداثة
بالانتقال من قراءة أيديولوجية مغلقة كقراءة مؤسّسة قدر الولاية الآنفة، تصدر من يقينيات مطلقة ثابتة عند أصحابها مسبقاً، لا تُبقي للكاتب إلا البحث عمّا يُثبت صحة متبنّياته؛ أقول بالانتقال من هذه القراءة إلى نسق آخر أضيق منها كثيراً وأشدّ أدلجة، نجد أنفسنا أمام النتائج نفسها. فالحزبية في إيران وفق القراءة التي يقدّمها مركز دراسات صحيفة "كيهان" الطهرانية هي وليدة التنوير والحداثة الغربيين، ومن ثمّ فهي لم تنبثق من صيرورة اجتماعية، بل أنَّ "الحزبية في إيران وُلدت مع مرض (التبعية)"، واقترنت بـهذه "الولادة المريضة"، وكأنَّ أطاريح إيران الحالية في النظرية السياسية، مثل مركب الجمهورية الإسلامية والدستور والبرلمان والانتخابات هي من موروثات عصر الرسالة، وليس من دلالات الدولة الحديثة ورمزياتها الغربية! (يُنظر: صانعو عـصر الظُلمة: حفريات في الاتجاهات السياسية المعاصرة، مرتـضى صفار هرندي، ط4، مركز دراسات مؤسّسة كيهان، ضمن مجموعة: النصف المخفي، الكتاب رقم: 37، مؤسّسة كيهان، طهران، 2014م، ص 19).
من المهم أن ننتبه إلى أنَّ قراءة صحيفة "كيهان" هذه التي صدرت تحت عنوان: "النصف الخفي" تخطّت مديات الإقصاء والتهميش، إلى ما أسميه تدمير الذات عبر تصفير أغلبية القوى السياسية والثقافية في البلد وإنهائها، بإخراجها عن دائرة الاستقامة والنقاء الثوري، ضمن مقاسات هذه القراءة وأنصارها!.

التنظير التآمري
في محاولة توثيقية أخرى ترتبط بأرخنة حزب من أبرز أحزاب الحركة الإصلاحية، هذه الحركة التي انبثقت على إثر وصول محمد خاتمي إلى الرئاسة (1997 - 2005م) سعى الكاتب أن يقدّم رؤية أقرب إلى الموضوعية، من خلال دراسة الحزبية كظاهرة اجتماعية مركبة، يمكن إخضاعها إلى قراءات متعدّدة تختلف باختلاف المناهج والمنطلقات وزوايا النظر.
من هذا المنطلق تتحدّث عن الأهمية القصوى للأحزاب وأنها ضرورية في نطاق الحركات الثقافية والاجتماعية والسياسية لأي شعب، من زاوية مشاركة عامة الناس في تقرير مصيرها ومصير البلد، ليعكس بعد ذلك رؤية في فلسفة تأسيس الأحزاب مفادها، أنه كلما انبثقت الأحزاب من عمق الثقافة الشعبية، وجاءت متجاوبة مع المنظومات القيمية الموجودة، كان دورها إيجابياً في الهداية الاجتماعية والسياسية، بعكس ما لو جاءت عن طريق "التقليد" ومن خارج الأُطر القيمية والمتبنّيات الفكرية للمجتمع، لينتهي إلى أنَّ هذا ليس من مختصات الأحزاب وحدها، بل هو: "شأن بقية المفاهيم والحركات الإنسانية" (يُنظر: حزب مشاركة إيران الإسلامية: الحزب الثاني من صناعة السلطة، مؤسّسة قدر الولاية، إيران، 2012م. والحزب الأول الذي صُنع على عين السلطة بحسب رؤية هذه المؤسّسة، هو حزب: كوادر البناء).
كان ينبغي لرؤية "سيسيوثقافية" مثل هذه أن تمنح صاحبها مرونة في التعاطي مع الظاهرة الحزبية، في الأقلّ في نطاق تجربة الجمهورية الإسلامية، لكن الكاتب والعقل المنهجي للمؤسّسة التي تقف من ورائه، لا يلبث طويلاً عند هذه الحقيقة المنهجية ويأبى الانسجام مع لوازمها، وهو يستعجل إصدار الحكم مع أنه لم يزل بعدُ في المقدّمة، حين تعامل مع الحزبية على نطاق أيديولوجي وأساسٍ جزمي فتوائي مجرّد عن الدليل، وسارع لاتهامها ليس فقط بعدم: "التجاوب مع الثورة والشعب، وإنما أيضاً مماشاة مصالح الاستكبار العالمي والتوحّد معها" (المصدر السابق، ص 10).

التفسير الاجتماعي
في محاولة تفكيكية لطبيعة الأجنحة السياسية في إيران، تستبطن مادة مهمّة عن هذه الأجنحة والخطوط والتيارات في تجربة إيران ما بعد الثورة، يقدّم لنا صاحبها رؤية لغياب الحزبية والموقف السلبي منها، على أساس تفسير ثقافي - اجتماعي، حين يعزو ذلك إلى أسباب ترتبط بمنظور اجتماعي لفردية الشخصية الإيرانية بل وفردانيتها، وجنوحها نحو التعالي والتغطرس والاستبداد. (يُنظر: تفكيك الأجنحة السياسية في إيران: 1979 ـ 1999م، حميد رضا ظريفي نيا، ط2، منشورات حرية الفكر، طهران، 1999م).
فمع أنَّ المؤلف يُعيد الأساس التأريخي لنشوء الحزبية الإيرانية الحديثة، إلى عصر الحركة الدستورية (1905 - 1906م) ويذكر حزبي "عاميون" و"اعتداليون" بالاسم، إلا أنه يُنبّه إلى أنَّ تجارب الأحزاب في بلده، أما أنها انهارت وتلاشت، أو كانت بلا قاعدة شعبية، عدا استثناءات قليلة، لينعطف بعد ذلك لتقديم نظريته في التفسير، على أساس قوله: "من وجهة نظر اجتماعية ينبغي الانتباه هنا، إلى خصوصيتنا الفردانية ونزعتنا الذاتية نحن الإيرانيون. فخاصيتنا في الاستبداد الإيراني والتغطرس ونزعة التمحور حول الذات، لا تدع لنا فرصة العمل من خلال الأحزاب والأُطر الجماعية؛ وهذه حالة لها مصاديقها حيال الأمم الشرقية أيضاً، نلمس شواهدها حتى في
النشاط الثقافي والرياضي" (المصدر السابق، ص: ب).
تراكم هذه النزعات السلبية ذات الطابع "السيسيوثقافي" هو السبب برأي الكاتب وراء تعثّر الحزبية الإيرانية خلال قرن من الزمان. وعندما حصلت انعطافة ما بعد الثورة، فبدلاً من تصحيح المعادلة على أساس ممارسة حياة حزبية سليمة، تهرّبت التجربة من الأحزاب إلى الأجنحة والخطوط والتيارات: "ما يُثير العجب ويبعث على الأسف في الوقت الحاضر، أنه وبدلاً من الأحزاب برزت بالضرورة الاتجاهات السياسية، وراحت تُمارس نشاطها في البُنية السياسية والاجتماعية للمجتمع على نحو عمودي (وليس طبقة فطبقة)؛ فكلّ واحد من هذه الاتجاهات يُمارس حضوره مثل عمود من السلطة، وليس كطبقة بحيث يقوم كلّ واحد منها بدفعها ورفعها إلى الأمام، بما يتناسب مع الأوضاع الاجتماعية السليمة".
تقع المسؤولية في ذلك بحسب هذه الرؤية، على النخب الإيرانية نفسها، لأنَّ هذه النُخب، هي فعلاً وستبقى: "العامل الأساسي للتنمية السياسية في إيران" (المصدر السابق، ص: پ).

الخوف من التسمية
ما تزال الشواهد أمامي كثيرة في تفسير ظاهرة العزوف عن الحزبية إلى الجناحية، وعن الحزب الهيكلي المنظم صوب التيار والاتجاه والجناح، وتفضيل المنظمة والجماعة والحركة على التسمّي بالحزب، لكن سأكتفي بشاهد أخير، فيه قدر غير قليل من الغرابة.
المفارقة التي أقصدها في هذه المحاولة، هي ما يذكره المؤلف من أنه تحاشى وصف بعض الجماعات والاتجاهات بالحزبية رغم أنها تعبّر عن أحزاب قائمة بالفعل، رعاية لمجموعة من الاعتبارات المرتبطة بأوضاع البلد، ولأسباب ترجع إلى تلك الجماعات نفسها، وهو ما دفعه نهاية المطاف إلى العزوف عن استعمال مصطلح "الأحزاب" والعدول عنه إلى مصطلح الأجنحة أو القوى السياسية: "لما كانت بعض الأحزاب والمجموعات السياسية قد تحرّكت عن طريق كونها جناحاً سياسياً، مع أنها تتوفّر في جميع أبعاد عملها على مواضعات الحزب، لكنها عزفت عن قبول عنوان الحزب لنفسها، لأسباب ترتبط بالأوضاع الحالية للبلد؛ لذلك كله رجّحتُ في هذا الكتاب وصفها بعنوان أنها أجنحة أو قوى سياسية تتحرّك على مستوى المجتمع" (يُنظر: تعريف الأحزاب والأجنحة السياسية في إيران المعاصرة، عباس شادلو، طهران 2000، المقدّمة).
ثمّ يعود بعد ذلك ليذكر بأنَّ: "الأحزاب في البلد لم تتأسّس بعد على وفق المواضعات والأعراف المتداولة للحزبية تقليدياً، ولم تخضع لمواصفاتها ومعاييرها المألوفة" (المصدر السابق، ص 7 - 8).

التكييفات الإيجابية
أعتقد أنَّ ما مرّ من رؤى سلبية يعكس واقع الاجتماع الشيعي برمّته من الحزب والحزبية، وهو ليس من مختصّات إيران.
لكن كان يُنتظر أن تتخطى إيران هذه الحساسية، حينما قبلت بتكييفات جذرية إزاء الدولة الحديثة، بل عاشت مقاربات عميقة لم يشهد لها العقل الشيعي مثيلاً قبل اليوم (عدا لحظات مرّت سريعاً إبّان الحركة الدستورية، ولحظة الخراساني ومن بعده النائيني والصدر وأضرابهم) كما حصل مع الدستور، والانتخابات، والمواثيق الدولية، ومركب الجمهورية الإسلامية نفسه، إلى عشرات القضايا مما يدخل في مجال الدولة الحديثة والنظام السياسي المعاصر؛ فلماذا تُستثنى الحزبية من بين ذلك، وهي لم تستثنَ تماماً عند طلائع الجيل الأول للثورة، وفي تجربة الحزب الجمهوري الإسلامي؟.