العمود ما بعد الكلاسيكي الجديد

ثقافة 2024/07/25
...

 د. صباح التميمي

 

ما الكلاسيكية أو الكلاسيّة؟، ما ملامح الفن الكلاسيكي؟، وما صفات الشاعر الكلاسيكي؟، كيف يَعبرُ الشاعرُ من مرحلة إلى مرحلة؟، وهل العبور حتمي أم يتمثّل بقفزة مفاجئة؟، بمعنى آخر هل يُولد فنيّاً بهُويّة ما بعد كلاسيكية من دون الدخول في دائرة الكلاسيكية، أم يولد وهو يُردّد أصوات غيره إلى أن يُشكّل صوتاً خاصاً، ويحمل هُويةً فرديةً؟! 

غالباً ما نقول: موسيقى كلاسيكية أو كلاسيّة، ورقصة كلاسيكية، وزِي كلاسيكي، وفكر كلاسيكي، ونريد من كلِّ هذا -بشكل عام - النمط المُستوحى من الماضي، القائم على محاكاةِ نماذج مثالية تنتمي لمراحل قديمة. 

فالشاعر الكلاسيكي، في ضوء هذه البساطة، هو الذي يستدعي مثالاً ونمطاً شعرياً قديماً ليُحاكيه، ومن صفات هذا الشاعر كما في بعض الدراسات: 

• احتذاء النماذج المشهورة في الشعر القديم.

• العناية بالجانب العقلي وبروز ظاهرة الحكمة عنده.

• الحرص على الحقيقة والتعبير عنها.

• الانفصام ما بين الشكل والمضمون في القصيدة.

• الاعتماد على وحدة البيت، والاهتمام الخاص بالجزالة في التركيب والعناية بالمفردة المعجميّة القديمة.

• من صفاته أيضاً أن المتلقي لا يجد عناءً كبيراً في إرجاع صورِه إلى مصادرها في الشعر القديم.

• شعار الشاعر الكلاسيكي كما يقول باسكال: إنّ الحديث عن الذات مكروهٌ.

• يتعامل مع الآخر تعاملاً تختفي فيه الذات في محيط ذلك الآخر وهالتِه. 

ولوضع الحدود بين هذا النمط الشعري وبين الذي يُمارس عبوراً صحيّاً لخلق مناخٍ شعري جديد، لا بدّ أن نفرّق أولا بين الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة وما بعد الكلاسيكية الجديدة من وجهة نظرنا: فأما الأولى فتعني، بحسب كثيرين، محاكاة لنماذج مثالية قديمة، وقد ظهرت في شعر القرن التاسع عشر والعصر الوسيط: الشاعر السيد حيدر الحلّي والسيد جعفر الحلي وغير هؤلاء.

وأما الثانية - وأعني الكلاسيكية الجديدة - فهي محاولة عبور وتحطيم لبعض 

قيود الأولى، وحركة خلخلة وتقويض لبعض مبادئ رسخَت في الذائقة الجمعية الكلاسيكية، وخير ممثّل لها الجواهري في مراحله المتقدّمة، وبعض الشعراء الذين جايلوه. 

أما الأخيرة، فأسمّيها "ما بعد الكلاسيكية الجديدة" وتبدأ -عندي - بحقبة ما بعد الجواهري، حقبة صعود شعرية عبد 

الرزاق عبد الواحد وهذه الأجيال المتعاقبة التي تقع ضمن إطار مدرسة عبد الرزاق فنيّاً: جيل التسعينيات وجيل ما بعد التغيير من العموديين، الذين في معظم التجارب خرجوا من معطف عموده، مع الاحتفاظ بملامح هُوية فنية جديدة مختلفة تطفو على السطح تارة، وتخبو في أحيان كثيرة مؤتلفةً مختفيةً ضائعةً في فضاءات مَن سبقها ومَن جايلَها! 

فهي، أعني ما بعد الكلاسيكية الجديدة، تمثّل هذا الجيل العمودي الواقع في حقبة وسطيّة انتقالية بين الكلاسيكية الجديدة، وحقبة ما بعد التغيير، بحسب التسمية السياسيّة!، فهي واحدة من التمرحلات التاريخيّة الزمنيّة والفنيّة التي رسّخت نسخاً سابقة، وانزاحت أحياناً عنها، مشكّلة نسخاً حاولت أن تُفارق النسخة الأم فنيّاً، ولكنها على نحو عام، فارقتها أيديولوجياً، لتزامنها مع تمرحلات سياسيّة وتاريخيّة وأيديولوجيّة رسمت صورة البلد بعد اندحار آخر الدكتاتوريات ونضوب فكرها.     

هذا التمرحّل الشعري يحمل ملامح خاصة وصبغات متباينة، أملتها عليه طبيعة المرحلة، فصار يحمل هُوية شبه مختلفة، وصفاتٍ شبه واضحة أيضاً، ويمكن لنا هنا أن نقول بأن الشاعر (ما بعد الكلاسيكي الجديد) يتميّز عموماً بالآتي:

• لا يحاكي نماذجَ مثاليةً قديمةً محاكاةً متطابقة بل يحاورُ تلك النصوص عبرَ قوانين التناص.

• يُفلسف الأشياءَ والتاريخَ ويُقدّمُ فيها تأويلاتٍ خاصةً نابعةً من وجهات نظر جديدة.

• تذوب الحدود في قصيدته بين الشكل والمضمون، فنصُّه ينبني على الانسجام البنيوي.

• عدم الاعتماد على وحدة البيت، والاستعاضة عنها بوحدة النص.

• شعارُه يقوم على فكرة: إنّ الحديث عن الذات واجبٌ شعري.

• يُبنى خطابُه الشعري على تقويض ظاهرة (التغريض) أي الكتابة في ضوء الغرض، فالشاعر اليوم لا يكتب الرثاء مثلا في ضوء قوانينه الكلاسيكية القديمة، بل ينطلق ليُحيي بعض العناصر الساكنة في التاريخ ويعالج في ضوئها بعض القضايا الموجودة في الحاضر، فتُصبحُ القصيدةُ مندمجةً مع الحياة لا منعزلةً كما في القرن التاسع عشر.

• لا تُبنى قصيدتُه بصرياً على قانون التناظر (صدر وعجز) الذي يقوم على البناء التراتبي الذي قد يتسرّب المللُ من خلاله للقارئ، بل إن قصيدتَه تلعب لعبةً بصريةً شكليةً فتخلخل قانون التناظر الشطري وتقوم باستبداله بقانون آخر أسميتُه (قانون التشتّت الحر)، الذي يعتمد على الدلالة والقصد الذي يريد الشاعر إنتاجَه، ومعه يصبح شكلُ القصيدة ما بعد الكلاسيكية على الورق غير ثابت، يختلف من تجربة لأخرى. 

• شغَّلَ الشاعر ما بعد الكلاسيكي الجديد الخطاب الموازي (العنوان، التصدير، التهميش..) وجعلَه مركزاً بعد أن كان هامشاً على مستوى القصيدة.

• يكمن الفرق أيضاً بين الشاعر الكلاسيكي الجديد والشاعر (ما بعد الكلاسيكي الجديد) في كيفيّة المعالجة للتاريخ برموزه ووقائعه عامةً: فالأول كان ناظماً مؤرّخاً، بمعنى أنّه كان يقف خارج حدود الشخصية التاريخيّة المستدعاة من التاريخ ليصفها بأمانة، في حين أن (ما بعد الكلاسيكي الجديد) يُحاور الشخصية أو يتقنّع بها، فمع الأول لا نجدُ صوتَ الذات الشاعرة مرتفعاً في القصيدة، وإنّما يقفُ الشاعرُ على أعتاب الشخصية والرمز المستدعى (الآخر)، ويبدأ بوصف هذه الشخصية وتفصيل منحنياتِها التي وصلتنا من التاريخ... أما الشاعر (ما بعد الكلاسيكي الجديد) فهو في وجوده النصّي يوازي الشخصية أو يعبرُ منطقتَها في أحيان كثيرة، فهو بفعل قوانين الاستدعاء الجديدة صار يحاور هذه الشخصية، بل إنّك تجد ذات الشاعر حاضرةً أكثر من الآخر المستدعى، وقد يندمجان ويذوبان مع بعضهما، فلا تجد الشاعر يقف خارج أسوار الشخصية، بل تراه وقد حوّلَ الشخصيةَ إلى كائنٍ نصّيٍّ مختلطٍ مع جسد النص، فهو يستدعي ويدخل ويفكك ويحلّل، فلا يقول هو شجاع هو كريم.. الخ، بل إنّ الرمز هنا يدخل مع الشاعر في حوار منتِج وكأنه يعيش بيننا في حين أننا هناك لا نجد هذا، بل ينقل لنا الشخصية منظومةً بأمانة، وهنا ستكون القصيدةُ تاريخاً منظوماً مُقفّى، فالشاعر الكلاسيكي، 

في تعامله مع التاريخ، يروي ما حدث، بينما الشاعر ما بعد الكلاسيكي الجديد يروي ما يُحتمل أن يحدث.

• ففي القصيدة (ما بعد الكلاسيكية الجديدة) نجد خلخلةً لأنظمة قواعد الكلاسيكية القديمة ومستوياتِها في التعامل مع التاريخ، فإذا أرجعنا القصيدة العموديَّة ما بعد الكلاسيكية الجديدة إلى مستوياتها نجد اختلافاً كبيراً بينها وبين الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة، إذ نجدُ أن القصيدة العمودية المعاصرة بدأت تأخذ من النص الحداثي (التفعيلة) أو ما بعد الحداثي (قصيدة النثر) أشياءَ كثيرة، حتّى أنها بدأت تقترب كثيراً من نماذج الحداثة على مستوى العتبات النصيَّة ومستوى البنية والتدليل والترميز والتقنّع، فمثلاً إذا أخذنا ما أسميه بـ (المستوى الإحالي) وهو محور غير موجود في الدراسات الأسلوبيَّة اقترحتُه في مناسبة أخرى، نجد الشاعر فيه يُحيلُنا على مجموعة من العلامات التاريخية المهمّة، سواء كانت رموزاً أم رواياتٍ أو أشياءَ أخرى في التاريخ، ولكنه لا يُقدّمها لنا جاهزةً على طبق التاريخ كما يفعل الشاعر الكلاسيكي بلا تحوير أو تحويل، إنما يُثير فيها أسئلةً، ويقدمها بطريقة سيميائيّة تُفعّل الدلالة، وهكذا تختلف القصيدة الحداثية العمودية عن القصيدة الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة في التعامل مع التاريخ.

• من سمات الشاعر (ما بعد الكلاسيكي الجديد) أننا نجد أن مخزون الشاعر الثقافي (مرجعياته الثقافية) تُستدعى وتنصهر بطريقة فاعلة غير جامدة، بل يظهر في ذلك كلّه صوت الذات وهي تعاني من تحولات العصر الجديد، لتجعل الشعرَ واستدعاءَ الرموز أداةً لتحويل الشعر إلى آلة دفاع ومعالجة لقضايا العصر وليس للترفيه والتسلية.

• الشاعر (ما بعد الكلاسيكي الجديد) لا يصنع صنيع الشاعر الكلاسيكي فيعزل التاريخ عن لحظة الحاضر، وإنما يستدعي لحظة التاريخ ويصهرُها في لحظة الحاضر وينتفع منها، ما يجعلُه مختلفاً عن نسخ الكلاسيكية التقليدية.