عادل الجبوري
قد لا يختلف اثنان على حقيقة مفادها، أنَّ الثورة الحسينيَّة تعد من أهم وأبرز الثورات التي مرت على تأريخ البشريَّة الطويل، ارتباطاً بطبيعة وجوهر الأهداف السامية التي حملتها، وعمق التضحيات التي شهدتها، والرسائل الإنسانيَّة البليغة التي انطوت عليها، فضلا عن تأثيراتها الشاملة في مساحات مكانيَّة وزمنيَّة كبيرة جداً، وبالتالي ديمومتها، وعدم اقتصارها على المنظومة الإسلاميَّة، ولا منظومة مذهب أهل البيت، عليهم السلام.
وطبيعيٌ أنَّ التعدّد والتنوّع في القراءات والتحليلات للأبعاد الإنسانيَّة العالميَّة للنهضة الحسينيَّة، إلى جانب تجلياتها الإنسانيَّة العاطفيَّة، دوماً ما تأتي بالجديد، وإنْ بدا للبعض أنه تكرارٌ لما كُتب أو قيل في أوقاتٍ سابقة، إذ إنَّ ذلك التعدد والتنوع يعكسُ في جانبٍ منه، شموليَّة الثورة الحسينيَّة، وديمومتَها في جانبٍ آخر، على الرّغم من تبدل الظروف والأحوال. وهذا ما يتمحور حول حقيقة أنَّ مجمل حركة الإمام الحسين عليه السلام، وثورته الكبرى، لم تأتِ من فراغ، وإنما أَمْلَتها تراكماتٌ كثيرة وكبيرة من الانحرافات السياسيَّة والاجتماعيَّة والأخلاقيَّة للمنظومة الحاكمة حينذاك.
وبما أنَّ السلبيات والأخطاء والانحرافات كانت وما زالت وسوف تبقى موجودة وشاخصة في كل زمان ومكان، وبما أنَّ الأفكار والتوجهات والأهداف الإصلاحيَّة للثورة الحسينيَّة لم تقتصر على بقعة جغرافيَّة معيَّنة، ولا على حقبة زمنيَّة محدَّدة، لذا فإن عالميَّة النهضة الحسينيَّة، كسِمَة أساسيَّة، ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بشموليَّة الثورة، من حيث طبيعة وجوهر أفكارها وأهدافها ومضامينها وأبعادها الإنسانيَّة العظيمة، إذ إنَّ من أهم سمات النهضة الحسينيَّة وعوامل انتصارها - كما يقول البعض – “أنها لم تكن محدودة الأهداف، أو مقتصرة على فئة معينة، بل انها جاءت لتعلن انتصارها للإنسانيَّة المسلوبة وإرجاع الحقوق الضائعة من جراء التمييز والطبقيَّة».
وتمثّلت عالميَّة الثورة الحسينيَّة من خلال تأثر الكثيرين بها، وخصوصاً من غير المسلمين، من أهل الديانات الأُخرى في العالم. كما أن عالميتها واضحة، في جانب آخر، ألا وهو عالميَّة الرسالة الإسلاميَّة التي جاء بها النبي محمد (ص)، وبالتالي عالميَّة رسالة الأئمة (عليهم السلام)، ومنهم الإمام الحسين علیه السلام. لذا فإن الذي يريد اختزال القضيَّة الحسينيَّة وحصرها في شعب معيّن، أو طائفة معينة، هو مخطئٌ، ويحتاج إلى إعادة النظر في كل منظومته المعرفيَّة.
ولا شكّ في أنه حينما يستلهم قادة وزعماء سياسيون ودينيون وكتّاب ومفكرون، يتبنون أفكاراً ونظريات وإيديولوجيات بعيدة كل البعد عن الدين الإسلامي، مبادئَ الثورة الحسينيَّة وقيمها، فإنَّ ذلك يثبت ويؤكد سمتها العالميَّة والشموليَّة. فالزعيم الهندي الكبير، المهاتما غاندي، يقول: “تعلمت من الحسين كيف أنتصر وأنا مظلوم”. كما يقول الزعيم الجنوب أفريقي الثائر، نيسلون مانديلا: “لقد أمضيت أكثر من عشرين عاماً في السجن، وبعد ذلك قررت في إحدى الليالي أن أستسلم بالتوقيع على جميع شروط الحكومة وقيودها، لكني فجأة بدأت أفكّر في الإمام الحسين وفي حركة كربلاء، فمنحني الإمام الحسين القوة للوقوف طلباً لحق الحريَّة والتحرر”. كما يؤكد شاعر الهند الكبير، رابندرانت طاغور: “من أجل إبقاء العدل والحقيقة حيَّين، لا عن طريق جيش أو أسلحة، فإنَّ النجاح يمكن تحقيقه في التضحيَّة بالنفس، وهو ما قام به الإمام الحسين. الإمام الحسين زعيم الإنسانيَّة».
ولعلّ مفهوم الإصلاح وهدفه عند الإمام الحسين عليه السلام، لم يقتصر على مجرد تغيير منظومة الحكم والسلطة الفاسدة، ولا على جلب التأييد والتعاطف مع مظلوميَّة أهل البيت عليهم السلام، ولا على تحقيق انتصار عسكري محدود في معركة لم يكن لها أنْ تدوم سوى بضع ساعات، أو أيام قلائل، وإنما تمثّل بتأسيس منهج سلوكي عام يتجاوز الحالة الآنيَّة الراهنة، ويقوم على رفض الظلم والطغيان والاستبداد، أياً كانت أشكالها ومظاهرها، والانتصار للمظلومين والمضطهَدين، والدفاع عنهم، وتكريس مبادئ الحق والعدل، في إطارهما الإنساني الواسع. وهذا هدف إنساني، قامت عليه كل الثورات والحركات الإصلاحيَّة، أياً كانت أسسها ومرتكزاتها الإيديولوجيَّة ومنابعها الاجتماعيَّة والثقافيَّة.
وإذا كانت الممارسات والسلوكيات البراغماتيَّة -الميكيافيليَّة طغت وهيمنت على مجمل العمل السياسي، المحكوم بالمصالح والحسابات الماديَّة الضيقة، وبالواقعيات القائمة، بصرف النظر عن توافقها وانسجامها مع المبادئ الإنسانيَّة النبيلة، والقيم الدينيَّة الصحيحة، التي جاءت بها مختلف الأديان والرسالات السماويَّة، فإن الثورة- النهضة الحسينيَّة مثّلت استثناءً وخروجاً عن ذلك السياق، إذ إنَّ هناك فارقاً كبيراً جداً بين من يسعى لتأسيس سلطة زمنيَّة تحقق له مكاسب وامتيازات سياسيَّة وماديَّة ضيقة وخاصة ومرحليَّة، وبين من يسعى لبناء كيان اجتماعي وسياسي على الأسس والمرتكزات الخاصة بالعدالة والحق والإيمان، والعمل بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومصاديق ذلك الفارق الهائل، نجدها كثيرة وكبيرة وشاخصة في التأريخ الحديث والمعاصر.
إنّ مشاركة ملايين الناس، سواء في العراق أو خارجه، في مختلف المراسم والفعاليات لإحياء الثورة الحسينيَّة، بصورة عاطفيَّة وجدانيَّة قلّ نظيرها، تمثّل وجهاً من التجذير والترسيخ لمبادئ الثورة وقيمها في منظومات الحكم والسلطة وإدارة المجتمع، ويقابله الوجه الآخر المتمثّل بالتطبيق العملي لتلك المبادئ والقيم، على صعيد الفرد والمجتمع والدولة.
وفي العالم الإسلامي والعوالم الأخرى على السواء، يصدح اسم الحسين عالياً، فلدى العرب والأكراد والترك والفرس والهنود وغيرهم من أبناء القوميات الأخرى، تهيمن أجواء الحزن والأسى والألم، وكذا الحال مع أبناء مختلف الأديان والمذاهب والطوائف والأعراق. كيف لا يصدح اسم الحسين وعاشوراء والطف وكل ما يرمز إليها في كل زمانٍ ومكانٍ وهو الذي ضحى من أجل كرامة الإنسان وعزته. ولم تطلق مقولة (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء) اعتباطاً، بل أطلقت تعبيراً صادقاً وحياً عن واقعٍ متجددٍ يعكسُ انتصار المبادئ الإنسانيَّة السامية والرفيعة على مبادئ التخلف والجاهليَّة والاستبداد والظلم والانحطاط، ويعكسُ انتصار الدم على السيف، وانتصار الحق على الباطل في كل زمانٍ ومكان.