حروب المنطقة الرماديَّة

آراء 2024/08/07
...

  جواد علي كسار

شكّل هذا المركز منعطفاً لتعزيز سياسات الإدارات الديموقراطية على نحوٍ خاص وقام بمراجعات لقضايا الأمن القومي الأمريكي، وساهم في اقتراح وبناء استراتيجيات جديدة في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما وعلى عهد إدارة بايدن الحالية.
يقال عن أمريكا في العادة إن القرار السياسي رهين أصحاب الثروات وأهل الصناعات، ومراكز التفكير التي تبلغ الآلاف من بينها مركز الأمن الأمريكي الجديد الذي تأسّس عام 2007م من قِبل مايكل فلورنوي وكورت كامبل، ليختص بقضايا الأمن القومي الأمريكي وتطوير خطط ومشاريع وأفكار تُقدَّم إلى الإدارة الحاكمة وتخدم المصالح الأمريكية.
شكّل هذا المركز منعطفاً لتعزيز سياسات الإدارات الديموقراطية على نحوٍ خاص وقام بمراجعات لقضايا الأمن القومي الأمريكي، وساهم في اقتراح وبناء استراتيجيات جديدة في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما وعلى عهد إدارة بايدن الحالية.
إلى باحثي هذا المركز يُعزى تقديم ورقة مقترحة لإعادة تصميم الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط صدرت عام 2020م، وهي تنصح باستناد هذه الاستراتيجية إلى مرتكزات أربعة، هي تقليص المصالح الأمريكية في المنطقة؛ واعتماد الدبلوماسية العملية النفعية القائمة على التهدئة بدلاً من تغيير الأنظمة والتدخّل العسكري؛ إعادة النظر بالوسائل الأمنية وفتح قنوات التواصل مع المجتمعات؛ وأخيراً خفض التواجد العسكري المباشر في المنطقة واستعمال الوسائل الواقعية.
بيدَ أن المهمّ برأيي هي الورقة التي قدّمها المركز بتاريخ 14 نيسان عام 2020م، بعنوانٍ عام هو: «مواجهة إيران في المنطقة الرمادية» ثمّ عطفها بعنوان شارح شديد الإيحاء والأهمية في وضع المنطقة الحاضر، هو: «ما ينبغي أن تتعلمه أمريكا من عمليات إسرائيل في سوريا».
تقدّم الورقة إيجازاً لسياسة أمريكا ضدّ إيران في المنطقة عبر الوكلاء والمجاميع النائبة، ما يجعل أمريكا شديدة الارتباك أقرب ما تكون إلى التردّد في مواجهة إيران عبر أدواتها؛ كلّ ذلك خشية الانجرار إلى مواجهات كبيرة وحروب شاملة لا ترغب بها. عند هذه النقطة يقترح المركز على الإدارات الأمريكية مواجهة إيران ضمن ما يطلق عليها «حروب المنطقة الرمادية» تماماً كما فعلت «إسرائيل» ذلك مع إيران في سوريا، خاصةً بعد عام 2017م وحقّقت نجاحاً كبيراً، تمثل بمنع «تثبيت» الحضور العسكري الإيراني في سوريا على غرار ما هو حاصل لحزب الله في لبنان، من دون أن تتورّط «إسرائيل» والمنطقة بحروب واسعة.
يقدّم التقرير ثماني خطوات مُنظِّمة لحرب المنطقة الرمادية مستمدّة من التجربة «الإسرائيلية»، هي: 1ـ بدلاً من الأهداف الاستراتيجية الكبرى يُركَّز على أهداف أصغر محدّدة. 2ـ يتمّ اللجوء إلى هذه العمليات فقط في حال ضمان التفوّق المخابراتي والعسكري، بحيث تُصاب إيران بالصدمة التي تمنعها من ردّ معادل للضربة. 3ـ حساب مستوى الخطورة بين إمكان انزلاق إيران إلى مواجهة شاملة، وبقاء الردّ في نطاق محدود. 4ـ التمسّك بالصمت أو الإنكار الإعلامي، مع بعث إشارات واضحة إلى إيران تؤكد هوية الفاعل الإسرائيلي. 5ـ السعي الدقيق لضبط خسائر إيران وجعلها محدودة خاصة بالنسبة للمدنيين. 6ـ التقيّد بأسلوب تدريجي والعمل خطوة خطوة ودفع إيران إلى التآكل الذاتي. 7ـ الاتكاء إلى الدبلوماسية التكميلية مع بقية الأطراف في المنطقة لإيجاد مناخ للعمل العسكري إذا لزم الأمر. 8ـ التعامل بمرونة وواقعية مع أسلوب الضربات التكتيكية هذا، ووضعه جانباً عندما يصبح عاجزاً عن التأثير.
ممن اقترح مواجهة إيران بضربات المنطقة الرمادية أيضاً هو مايكل آيزنشتات الخبير في مؤسّسة واشنطن للشرق الأدنى، ضمن ورقتين صدرتا عامي 2020 و2021م، أكد فيهما ضرورة مواجهة إيران بعمليات خاطفة ومحاصرتها بحروب المنطقة الرمادية، من خلال سلسلة من الهجمات الغامضة العسكرية وغير العسكرية، ودفعها إلى الشك وعدم اليقين، ومن ثمّ تعقيد الردّ وإرباك حساباتها. اقترح الباحث على هذا الصعيد لتحقيق هذه الاستراتيجية، مواجهة إيران في الحرب الرمادية، بمجموعة منوّعة من الأدوات الدبلوماسية والمخابراتية والعسكرية والاقتصادية والسايبيرية، لإيجاد الردع المطلوب.
يعطينا هذا الإطار في استراتيجية الردع عبر ضربات المنطقة الرمادية، تفسيراً معقولاً للكثير مما يدور حولنا في المنطقة لا سيّما الغموض الذي اكتنف اغتيال إسماعيل هنية شمال طهران، وما قد يجرّ إليه من تداعيات.