الجواب الهوبزي على سؤال الدولة

آراء 2024/08/07
...

  أ.د عامر حسن فياض

أسس هوبز نظريته السياسية في هذا الكتاب على الربط بين علم الهندسة، بوصفه علماً طبيعياً والعلوم الانسانية – الاجتماعية، وهو ما كان قد سبقه إليه الفرنسي ديكارت في النصف الاول من القرن السابع عشر 1600- 1700م، وعلل هوبز ذلك الربط وفسره بتأثره بكتاب إقليدس (الاصول) على الحتميات الرياضية والهندسية، الذي وصفه بأنه المثال للعلم اليقيني، وأن مسبقات علم الإقليدية ومسلماته، هي التي تؤسس لنظرية الدولة وتُكسبها الطابع العلمي ذاته
 قال المفكر الانجليزي توماس هوبز (1588-1679) إن السلطة هي (رغبة لا تنتهي إلا بالموت). وترتبط مؤلفات هوبز السياسية ارتباطاً وثيقاً بواقع انجلترا وأحوالها في عصره، حيث وضع عام 1642م كتابه (عناصر الفلسفة: المواطن) وكرسه للدفاع عن السلطة المطلقة، وعندما اندلعت الحرب الاهلية في انجلترا لجأ بمحض إرادته إلى فرنسا، وبعد عودته منها وضع عام 1650م كتابه الشهير (اللفياثان/ الوحش/ التنين)، ولكن عمله لم يقتصر على هذين الكتابين، حيث وضع كتباً اخرى تتعلق بالمنطق والرياضيات وفلسفة القانون. ولكن هذا الكتاب كما تقول مقدمة ترجمته إلى العربية اصبح اشهر كتبه، بل وأحد أشهر الكتب في مسألة السلطة والدولة في القرون الاخيرة بعد كتاب مكيافيلي (الامير)، وكان هدفه منه هو دراسة أفضل السبل لتأسيس الدولة والشرعية على أساس فلسفي متين.
وأسس هوبز نظريته السياسية في هذا الكتاب على الربط بين علم الهندسة، بوصفه علماً طبيعياً والعلوم الانسانية – الاجتماعية، وهو ما كان قد سبقه إليه الفرنسي ديكارت في النصف الاول من القرن السابع عشر 1600- 1700م، وعلل هوبز ذلك الربط وفسره بتأثره بكتاب إقليدس (الاصول) على الحتميات الرياضية والهندسية، الذي وصفه بأنه المثال للعلم اليقيني، وأن مسبقات علم الإقليدية ومسلماته، هي التي تؤسس لنظرية الدولة وتُكسبها الطابع العلمي ذاته.
وإذا كان هوبز يعتقد بأن علم الرياضيات والهندسة هو العلم القائم على البديهيات والمسلمات العقلية والبرهانية، فقد كان يعتقد ايضا بان نظرية الدولة تتأسس على هذا العلم، حَرِيةٌ وجديرة بإرغام كل أحد على الاقتناع بها وقد كشف ذلك في كتابيه (الجسم) و (الانسان)، ثم في كتابه الأشهر (اللفياثان) الذي أقامه على فكرة اساسية مفادها:بأن ثمة علما طبيعيا وفيه أجسام تتحرك، وأن الأجسام الإنسانية في العالم الطبيعي تُحدث حركة ميكانيكية ينتج عنها بالضرورة المجتمع أولاً (المجتمع الطبيعي الحر المنعدم السلطة)، ثم الدولة (المجتمع السياسي المقيد بالقانون والخاضع للسلطة)، حيث تعيد الدولة تأسيس المجتمع الطبيعي الحر وتتولى إدارة شؤونه على قاعدة التعاقد الشخصي والاتفاق الإرادي للأفراد على التنازل عن كل حقوقهم للحاكم (صاحب السيادة)، وتسليمهم له بالسلطة من دون قيد ولا شرط ولا التزام عليه، بما يسمح له بأن يشرع القانون ويطبقه عليهم، ليحقق لهم الأمن ويقيم النظام (توماس هوبز. اللفياثان. مواضع متعددة ومتفرقة).
ولكن فكر هوبز السياسي كان في واقع الأمر محكوماً في مقدماته ونتائجه بحالة الخوف، التي كان يعيشها كمواطن في زمن وبلد تعرض للتقلبات السريعة والحادة بفعل الانقسامات والصراعات المذهبية والثورات السياسية، ومانتج عنها من حرب اهلية اقترنت بقتل العديد من الشخصيات البارزة، بما في ذلك الملك شارل الاول، مما جعل أفكار هوبز تعبيرا عن خوفه هذا ورد فعل عليه، فوجه جهوده الفكرية للتأسيس لتظام سياسي قادر على تحقيق الامن وتوفير السلام والطمأنينة حتى ولو قام هذا النظام على السلطة المطلقة. لذلك فقد كان البحث عن السلام والطمأنينة هو الهاجس البديل لديه عن هاجس الخوف ليكون حضور الاول ضماناً لغياب الثاني، وما شغل بال هذا المفكر بشكل خاص هو الوسيلة التي بموجبها يتحقق الأمن والسلام والطمأنينة ليتم تجاوز الخوف، وتمثلت هذه الوسيلة لديه في السلطة المطلقة.
إذا كان اساس حالة الطبيعة وشرطها ومحرك نشاطات الانسان فيها عند هوبز هو (مبدأ الرغبة)، فإن اساس وشرط الخروج منها وإقامة المجتمع المدني- السياسي عنده هو (مبدأ العقل)، لان العقل هو ما يميز الانسان، وهو ايضا ما يُعلَم الانسان أن يسارع لحل تناقضات الحالة الطبيعية وصراعاتها، وهو القوة التي تنظم المجتمع وتنقله من الحالة المجتمعية الطبيعية إلى الحالة المجتمعية المدنية – السياسية. ولكن هذا الانتقال لا يحدث بشكل اعتباطي، بل يحدث وفقاً لقوانين الطبيعة التي تقرر ما يعمله كل كائن عاقل، فقانون الطبيعة عند هوبز هو كل ما يمليه العقل السليم الذي يُعَلّم الاشياء، التي يجب عملها والأشياء، التي يجب استبعادها من أجل المحافظة على استمرار الحياة. ويُحدد هوبز تسعة عشر قانوناً طبيعياً، لكنه يؤكد بوجه خاص على قانونين طبيعيين رئيسين من بينها هما:
-    قانون البحث عن السلام.
-    قانون الدفاع عن النفس بكل الطرق المتوفرة.
ويمكن في ضوء هذين القانونين القول بأن هوبز يعد المحافظة على الذات، هي النقطة المركزية في نشاطات الحياة الإنسانية، وعندما تكتسب المحافظة على الذات مثل هذه المكانة المحورية في حياة الناس، فإنها ستدفعهم إلى التعاون بل وتجبرهم عليه فضمان الانسان لأمنه يلزمه ويفرض عليه السعي لتحقيق السلام، ولأنه لا يستطيع تحقيق السلام بمفرده فإن عليه التعاون مع غيره لتحقيقه.
واستناداً إلى ذلك فقد رأى هوبز أن تطلع الناس وسعيهم لتحقيق الأمن والسلام لأنفسهم يجبرهم على الاتفاق (العقد الاجتماعي)، وعلى التنازل عن الحق المطلق الذي يمتلكه كل فرد منهم في الدفاع عن نفسه وضمان أمنه وسلامته، عندما يعيش في حالة الطبيعة، وهو حق موازٍ ومساوٍ لحق مماثل يمتلكه كل شخص آخر لأن حق كل انسان وقدرته على ممارسة حق مطلق في ضمان أمنه وسلامته دون قيد أو شرط، هو سبب الفوضى والدمار. ولا يمكن تحقيق المرجو من هذا الاتفاق إلا إذا وجدت قوة قاهرة وسلطة قادرة على إلزام الناس وإرغامهم على تطبيق ما اتفقوا عليه، وأن تضمن ذلك الاتفاق وتحميه بما تمتلكه من الشروط المادية والمعنوية المؤكدة والملحوظة والملموسة عيانيا للقدرة على إيقاع العقاب بمخالفيها والخارجين عليها، لان القوانين على حد قول هوبز تكون موضع احترام لأنها تثير الخوف، والاتفاقيات البعيدة عن السيوف ليست ألفاظا خالية من أية قوة تؤمن الحماية لأي كان.