صناعة الهامش والهجرة الثقافية

ثقافة 2019/08/06
...

مهند الخيكاني 
 
اليوم الذي قررت فيه شخصيات “ المركز “، أنها معجبة إعجابا كبيرا بشخصيات الهامش الجدلية ، دخلنا في نوبة إغماء جديدة من التزييف والتصنع ، وأصبح المريدون يحجون من كل الجهات ، في سبيل تحقيق شيء من تلك الجدلية اللافتة . حتى أصبح الهامشي الحقيقي مقوساً بمن زيفوا هذا الخط . 
وبدل أن يكون اختراق الهامش للمركز ، اختراقا على المستوى الثقافي والمعرفي والجمالي ، حتى يكون هو الواجهة ، أصبح الماء الذي تمتصه الاسفنجة 
حتى جف. 
والان نحن نعاني من وجود مركزين بدل أن يكون واحدا ومن هوامش كثيرة لا أحد يعيرها الانتباه بعدما تشوهت صورتها الحقيقية .
مركز موجود من الأساس وتألفت حوله كل أسباب النماء والتطور والتحضر في شتى مجالات العلوم الطبيعية والانسانية ، وعندما بلغ ما بلغ من الاشباع وطبع بالتكرار والقوانين الحادة ، من جانب واعجاب شخصيات المركز بشخصيات الهامش من جانب اخر ، أدى ذلك الى هجرة ذهنية لا أكثر باتجاه الهامش ، هجرة مدفوعة بالتذوق والسعي لتجريب شيء مختلف وجاذب ، ليس من صنع المألوف واليومي المشاع ، الا ان هذه الهجرة افسدت خصوصية الهامش ، ذلك انها شبيهة باستقطاب مفاهيم وسلوكيات وليدة الجغرافية ثقافيا واجتماعيا ، وظروف المكان وطبيعته ومناخه ، واذا ما كان الهامش يقع على اعتاب مدينة ساحلية ، او يشتهر فيها النهر ، او تمتاز أرضه بوعورتها او انبساطها . كل شيء في البيئة ينعكس على بعضه في جملة علاقات أولية ، مؤدية الى علاقات صريحة ينضج فيها المكون الثقافي الى بنيات وشبكات مترابطة من الداخل ارتباطا وثيقا حتى وان بدت من السطح ، مفككةً 
ومتناشزة .
 الصور الناتئة في عين الراصد ، هي الصور التي لم تجد سبيلا لتوضيح علتها ، ولم يتم فحصها بالشكل الدقيق ، وعلى الرغم من تعقيد الدقائق الثقافية والاجتماعية ، الا انها تعمل كأسباب ونتائج في آليات بسيطة . اذن كيف سيصح التشبه والتقمص واجتذاب القيم من منطقة الى اخرى مختلفة في خصوبتها وقدرتها على انماء انواع اخرى من الظروف الثقافية ؟ ، الأمر الذي أوصلنا اليوم الى صناعة الهامش وهي تختلف عن الهامش الاصل في مكنوناتها ، تشبهه في الظاهر ، مما انتج سلوكيات وقيمًا غير أصيلة تتداخل وتمتزج وتتناقض في شخصية المتمقص المهاجر مع ثقافته ومكنوناته الأصل ، هذا التخلي المفاجئ غير المحسوب وضع الأفراد في ضياع قيمي وثقافي ، على اعتبار أنه عائم ولا يجد له طينة خصبة للنمو . 
من ذلك تداعى الهامش وفقد روحه الفنية وتمايزه الابداعي ، تاركًا خلفه جثة المكان على سابق عهدها الأول ، عندما كانت تدور في اطار من الانحدار والتدني الحياتي والمعيشي ، تسعى سعيها القديم في ملاحقة رفاهيات
 المركز الاصل ! 
اما تحول الهامش الى مركز اخر هو ايضا مدعاة للضياع والشتات ، حيث ان دخوله آليات التحول نفسها أدى به الى صناعة مركز لا يلائم مناخه الثقافي . 
هذا غير ان كل من المركز والهامش اكتسبا بشكل بديهي وجودهما من فكرة الثنائية المتناقضة ، وفقدان أو تقنين هذه العلاقة هو ضرب لمركزية كل منهما داخل ارضه ، وهو بمثابة صدع في وجودهما ، فكلما ابتعدا ، ازداد بروزهما وكلما تداخلا 
عمت الضبابية . 
هجرة العنصر الثقافي من مكان الى آخر بفعل الاعجاب والرغبة دون فحص وتشخيص يدعو الى الخلل ويضرب فكرة المختلف وصفة الاختلاف . 
ولعلّها من سلبيات التثاقف أو المثاقفة ، على قدر ما له من أهمية ، وكثيرا ما ركزت الأنثروبولوجيا الثقافية على هذه 
الموضوعة .
واذا كانت الهجرة الثقافية بين منطقتين مختلفتين في اطار ثقافة محلية واحدة ، تؤدي الى الكثير من التشوهات والنشاز ، مثل منطقة وسطى وجنوبية ، أو وسطى وشمالية ، أو شمالية وجنوبية ، فكيف بالتداخل بين ثقافتين كلّيتين تنتميان لجغرافيا وحدود متباعدة ! مع الأخذ بعين الاعتبار دور العولمة في تسهيل عملية الاختراق واضافة تسريبات ومنافذ جانبية على طول الطريق .
 وهذا لا يمنع من وجود ثقافات متجاورة تُنضِج بعضها بعضًا ، خاصة اننا نعيش اليوم في بلدان تمتاز بالتنوع الثقافي ، كما ونشهد هجرة عشوائية 
من بلد الى اخر . 
و كأمثلة على بعض ما ورَد ، نرى في الإطار الأدبي والشعري التشبّه ، ب” رامبو “ و “جان جنيه” في السلوك الحياتي والشعري والتشبّه بجيفارا على المستوى الفكري 
والنضالي . وعلى مستوى الثقافة والاجتماع و النقد ، خاصة في المناهج النصانية ، التي انتجتها الحضارة المادية الغربية ، وطبقتها المؤسسات العربية .
وبلا أدنى شك فإن البطء والتخاذل في الحراك الترجمي ، جعل القراءة منحصرة في أرقام معينة لعنوانات محددة منذ سنوات ، إلا من بعض الجهود الفردية الخالصة في ترجمة الاصدارات الحديثة في البلدان الغربية ، أمثال قحطان جاسم ولطفية الدليمي وحسن ناظم في العراق ، واخرين يعملون بشكل فردي في الوطن العربي . هذا القصور والتلعثم في مجال الترجمة ، أسس لانهدام ثقافي وخراب فكري غير محسوب ، حيث إن الكتب المترجمة التي تصل إلينا على انها اصدارات جديدة ، تحمل طابعا مختلفا من الافكار ، لكنها في الوقت ذاته اصبحت تراثا بالنسبة للجهة المصدّرة ، فنحن الى اليوم نعتد بفلاسفة مثل غوته ونيتشه وهايدجر وسارتر وسيوران وألبير جامو وغيرهم ، في الوقت الذي تعتبرهم تلك البلدان التي نشأ فيها هؤلاء الكتّاب ، مجرد مرحلة فكرية لا أكثر وراحوا يكملون تلك السلسة بإضافة حلقات جديدة نسمع عنها ولم نطّلع عليها .
 الأمر الذي جعل القارئ العربي المختص وغير المختص في خانة التأخر ، ويمتثل لأفكار وطروحات هي جديدة من باب أنه لم يطلع عليها بعد ، لكنها من باب آخر تحولت الى أساس تُبتنى عليه وتستحدث خلاله نظريات في شتّى المجالات . 
وهو ما يقع على بقية الترجمات في إطار الشعر والأدب ككل ، مخلّفا آثارا تراكمية يمكن الشعور بها الآن أكثر لكونها بدأت تتخذ شكلا خشنا وناتئا في الثقافة المحلية .