إبراهيم سبتي
كل الدول التي تشبه الوضع العراقي في التركيبة الاجتماعية المتنوعة، عملت على جمع ذلك التنوع في نسق واحد من خلال التوفيق بينها والتعايش والتسامح ونسيان كل ما أثر في سير العلاقات المجتمعية وصار السند القوي لهم هو الوطن ولا سواه وهذا ما نراه او نقرؤه عن تلك الشعوب التي تفخر بما وصلت اليه.
في العراق تطورت العلاقة المجتمعية منذ آلاف السنين لان ارض العراق موطن حضارات ثلاث، هي من اكبر واقوى الحضارات التي اثرت البشرية بالعلم والكتابة والادب. فصار الناس يكمل احدهم الآخر ان كانوا في الشمال او الوسط او الجنوب. بل اصبح التنوع الديني والعقائدي مصدر قوتهم ونباهتهم واخلاقهم. قبل اربع سنوات تحديدا، كان احد الموظفين العاملين معي ينتمي الى ديانة كريمة اخرى. كلفته بواجب يتعلق بعملنا فردّ عليّ بصوت خفيض وكأنه اراد ان يخبرني شيئا بكل وقار واحترام ولهفة عندما قال : استاذ اليوم العصر فريقنا يلعب ! قلت : واين الغرابة في الامر؟ بعد فاصل لدقائق اكد لي ان الواجب سينجزه الان ـــ وكان الوقت صباحا ــ لأتابع المباراة. قلت له لا مشكلة. في اليوم التالي وكان الفريق العراقي قد فاز في المباراة، كان الرجل يحمل علبة من الحلوى الشهية وهو يدخل الغرف مبتهجا فرحا مسرورا. كان فرحه اوصله للدموع وهو يوزع الحلوى. نظرت الى الرجل الفَرِح من كل قلبه وهو يذرف الدموع التي لم اره في هذا المشهد من قبل. ادركت انه يحب الفريق العراقي يعني انه يحب العراق. هذه الفرحة نراها في كل مباراة للفريق وهو يخوض مباراة ما مع اي فريق اخر. و كم من المواقف كانت تذرف الدموع عندما يجلس الناس في مقهى او كازينو شعبي او غيره وتصدح الاغاني والاناشيد المغمّسة بالحب والدموع وانت ترى التنوع العراقي يبكي ويصفق ويهتف بالفوز وتتعالى الاناشيد الوطنية الحماسية ومن ثم يتعانق الجميع ويعزم بعضهم بعضا وهم يعيدون سرد المباراة باندفاع ولباقة وحب. هذا حال المجتمع الذي عرفناه وسجّل التاريخ كل حكاياته وقصصه. فكانت الرقم المكتشفة في اور تخبرنا عن سومر وهي تعطي للعالم درسا في الشعر وقصائد الحب والابجدية الاولى التي علمت البشرية كيف ان العقول العراقية بكل تنوعها صاغت قلادة الحب لتمنحها للآخرين الذين ينظرون بتعجب واعجاب. وكذا الحال في بابل بلد القانون الاول ونظم الحياة وآشور التي ابدعت في تنظيم المكتبات والقراءة والمجد. فلا غرابة ان نجد ان المنتخب العراقي يجمع الشعب الملهوف لسماع اخبار الفوز والنصر ليعبّر عن حماسه وانتمائه لهذه الارض الخضراء المانحة للحياة والتسامح والتعايش منذ الازل. وفي تجارب الشعوب المثيلة للعراق، نجدها قد بدأت حياة التعايش والتآلف في العصر الحديث بعد ان شبعت حروبا وقهرا ولم تكن يوما كالعراق البلد السلمي والمتسامح مع شعبه منذ القدم حين كُتبت الملاحم والرقم وشهادات الابداع المتنوع. ولم يكن زميلي الموظف ينتظر مباريات الفريق العراقي حسب، انما ذهب ابعد عندما رافق بعض الزميلات بسيارته الى زيارة المراقد الدينية المقدسة في بغداد وهو يقول هذا تراثنا وتاريخنا يجب ان نفخر به كما اخبرتني احدى الزميلات التي ظلت تكيل المديح والتعجب لذلك الرجل الذي ينتمي الى ديانة اخرى ولكنها استدركت قائلة بفخر هذا هو العراقي الشريف لا يهمه من اين يكون والى اي قومية او ديانة ينتمي فكلها بنظره تصب في نهر واحد هو نهر العراق. اذن فتعويذة العراقي اينما يكون هو حب بلده وفرحه عندما يفوز الفريق العراقي الذي يكتب قصيدة الحب بلغة التعايش الجميل فيجمعنا على مائدة الوطن دائما وعندما ينتصر العراق وعندما نتعايش بمحبة وكرامة وتسامح.