سموم يطلقها ذوبان ثلوج القطب الشمالي
بانوراما
2019/10/07
+A
-A
تيم سميدلي
ترجمة: مي اسماعيل
التلوث والجمرة الخبيثة وحتى النفايات النووية باتت أخطارا يطلقها الاحتباس الحراري العالمي.. خلال سنة 2012 زارت الباحثة "سو ناتالي" منطقة دوفاني يار بسايبيريا للمرة الأولى، ورغم أبحاثها الواسعة (ما بعد الدكتوراه) عن تأثيرات ذوبان طبقات التربة العليا "بيرمافروست- permafrost" نتيجة التغيرات المناخية؛ لم تكن مستعدة للمنظر الذي رأته شخصيا.. أحدث الذوبان السريع انهيارات أرضية في المنطقة؛ أو ما يمكن وصفه بأنه "تخسف هائل".. كفتحة بالوعة عملاقة وسط التندرا السايبيرية.
تستذكر "ناتالي" (العالمة بمركز أبحاث وودز هول- ماساتشوستس) الموقف قائلة: "كان منظرا يصعب تصديقه؛ أصابني بقشعريرة.. تلال منهارة بحجم عمارات متعددة الطوابق، ونتوءات تبرز كأنها جذوع خشبية من طبقة التربة العليا.. لكنها ليست جذوعا، بل عظام الماموث وغيره من مخلوقات حقبة عصري البلايوسين وهلوسين".
ما وصفته ناتالي هو التأثير الدراماتيكي المنظور للذوبان السريع في القطب الشمالي؛ إذ بدأت طبقة التربة العليا "بيرمافروست- permafrost" (التي كانت حتى وقت قريب دائمة التجمد) بالذوبان وكشف ما يختبئ تحتها من أسرار. فبجانب أحافير البلايوسين وهلوسين "Pleistocene" أطلق الذوبان انبعاثات الكربون والميثان الهائلة، والزئبق السام والأمراض القديمة.
"قنبلة الكربون"
تختزن طبقة "بيرمافروست" (الغنية بالمواد العضوية) نحو 1500 مليار طن من الكربون؛ أي ما يقرب من ضعف كمية وجوده في الغلاف الجوي وثلاثة أضعاف النسبة المخزونة في جميع غابات العالم؛ هذا ما أكدته ناتالي.
وتمضي قائلة : إن نحو ثلاثين الى سبعين بالمئة من تلك الطبقة السطحية قد تذوب قبل عام 2100 (تبعا لإستجابة الانسان للتغيرات المناخية): "سنصل نسبة السبعين بالمئة إذا استمر الانسان بحرق الوقود الاحفوري بالمعدل الحالي، ونسبة ثلاثين بالمئة إذا قللنا معدلات انبعاث الغازات الدفيئة بسرعة.. وما بين 30 - 70 بالمئة الذائبة سيبدأ الكربون المخزون في المادة العضوية بالتكسر بفعل الميكروبات (التي تستخدمه وقودا أو مصدر طاقة) وبالنتيجة يبدأ إطلاق المكونات بصيغة ثاني أوكسيد الكربون أو الميثان".
سينطلق نحو عشرة بالمئة من الكربون المتحرر غالبا بصيغة ثاني أوكسيد الكربون، ومقداره نحو 130 - 150 مليار طن، أي ما يعادل كامل الانبعاثات الحالية في الولايات المتحدة الأميركية، كل عام حتى سنة 2100.
وهكذا يمكن اعتبار ذوبان طبقة "بيرمافروست" بمثابة إضافة دولة جديدة الى قائمة الدول ذات معدلات الانبعاثات العالية، ومصدر لم يجرِ حسابه مسبقا في القوائم الحالية "للجنة الدولية للتغيرات المناخية-IPCC" التابعة للأمم المتحدة. تقول ناتالي: "يتحدث الناس عن قنبلة الكربون، وهذا ليس انبعاثا بطيئًا وفق الجداول الزمنية الجيولوجية؛ بل مخزون كاربوني محتجز لم يؤخذ بالحسبان في محصلة الكربون الكلية للإبقاء على ارتفاع درجات الحرارة أقل من درجتين سليزيتين (مئوية)".
حين يتداعى المحيط
خلال شتاء 2018 - 2019 سيطرت عناوين "الدوامة القطبية" على نصف الكرة الشمالي؛ حيث انخفضت درجات الحرارة بشكل غير معتاد جنوبًا نحو أميركا الشمالية.
خلال كانون الثاني 2019 وصلت درجة الحرارة 29 تحت الصفر في مدينة ساوث بيند- انديانا ؛ وهو ضعف مقدار الانخفاض القياسي المسجل هناك سنة 1936.
لكن ما غطت عليه تلك القصص كان الظواهر المعاكسة التي تقع في أقصى الشمال؛ ما بعد الدائرة القطبية.. شهد ذلك الشهر أيضا وصول وجود الجليد في البحار القطبية الى 13.56 مليون كم مربع؛ وهو أقل بنحو 860 ألف كم مربع من معدل سنوات 1981 - 2010 (الذي استمر لفترة طويلة) ويزيد بنسبة طفيفة عن أوطأ معدلاته (كانون الثاني 2018). في تشرين الثاني الماضي ، فالمفروض أن تصل درجات الحرارة نحو 25 درجة سليزية تحت الصفر في القطب الشمالي؛ لكنها سُجلت درجة 1.2 فوق الصفر؛ لهذا.. لقد بات القطب الشمالي يتعرض للاحترار بمعدل سرعة مضاعف عن باقي أجزاء الأرض )جزئيا بسبب فقدان الانعكاس الشمسي(. هذا ما تؤكده "أيملي أوزبورن" مديرة برنامج أبحاث القطب الشمالي "NOAA"، ومحررة بطاقة تقرير القطب الشمالي (دراسة سنوية لمراجعة البيئة هناك)، كنتيجة مباشرة لارتفاع درجات حرارة الهواء: "نلاحظ زيادة عالية في ذوبان "البيرمافروست"؛ لذا يتداعى المحيط فعليا وتتغير الأمور بسرعة وبطرق لم يتوقعها
الباحثون".
لم يقدم تقرير القطب الشمالي لسنة 2017 أي حقائق مضللة؛ إذ جاء فيه: "القطب الشمالي لا يقدم أي علامة على العودة لكونه منطقة متجمدة بشكل موثوق".
وتحرت إحدى دراسات البروفسور "هان كريستيانسين" (بمركز جامعة سفالبارد- النرويج) درجات حرارة "البيرمافروست" على عمق عشرين مترا، بعيدا عن التغيرات المناخية الفصلية قصيرة الأمد)؛ فوجد أن الحرارة إرتفعت نحو (0.7) درجة سليزية منذ سنة 2000.
يعلق البروفسور كريستيانسين قائلا: "ترتفع درجات الحرارة داخل "البيرمافروست" بمعدل سريع نسبيا؛ وهنا تكمن الفرصة لما كان متجمدا بصورة دائمية أن يتحرر وينطلق".
بقيت درجات الحرارة الخريفية في سفالبارد فوق الصفر المئوي خلال شهر تشرين الثاني 2018، وكان ذلك يحدث.."لأول مرة في السجلات التي تعود حتى سنة 1898. ثم هطلت كميات كبيرة من الأمطار، بينما المعتاد هنا تساقط الثلج؛ فحدثت انجرافات طينية عبر الطرق لمئات الأمتار، وتوجب إخلاء بعض السكان".
تحولات مُقلقة
تثير التغيرات السريعة لطبقة البيرمافروست بأميركا الشمالية القلق أيضا؛ كما تقول ناتالي (التي قادها عملها الميداني من سايبريا الى ألاسكا): "تبدو الأرض في المنطقة القطبية بألاسكا أشبه بقطعة جبن مثقبة نتيجة الانهيارات الأرضية وتشكل البحيرات؛ إذ تحولت المياه المتجمدة القريبة من السطح الى
برك".
تموج العديد من تلك البحيرات الآن بالميثان؛ إذ وجدت الميكروبات الدقيقة نفسها فجأة أمام وليمة دسمة من المواد العضوية القديمة لتتغذى عليها، لتحرر غاز الميثان كناتج عرضي. تمضي ناتالي قائلة: "يمكننا المشي فوق تلك البحيرات أحيانا؛ فهي ضحلة وبها الكثير من الفقاعات".
لكن ما حرره ذوبان الأرض التي كانت متجمدة لم يقتصر على الميثان وثاني أوكسيد الكربون؛ ففي صيف سنة 2016 وقعت مجموعة من رعاة غزال الرنة المرتحلين ضحية لمرض غامض، وانتشرت الشائعات عن "الطاعون السايبيري"؛ الذي لوحظ لآخر مرة هناك سنة 1941.
جرى تشخيص المرض بعد وفاة صبي ونحو 2500 غزال: الجمرة الخبيثة "anthrax"، وقد انتشر بعد ذوبان جثة غزال نافق كان من ضحاياه قبل خمس وسبعين عاما.
خمّن تقرير القطب الشمالي لسنة 2018 أن "أمراضا مثل الانفلونزا الاسبانية والجدري والطاعون كان قد انمحت سابقا قد تكون متجمدة في طبقة البيرمافروست". وفي دراسة فرنسية أُجريت سنة 2014 في تدفئة فيروس متجمد عمره ثلاثين ألف سنة مختبريا وإعادته للحياة؛ فاستعاد نشاطه بعد ثلاثمئة قرن!
لهذه الرؤيا المروعة غزت مياه ذوبان البيرمافروست سنة 2016 منشأة "خزانة يوم القيامة-Doomsday Vault "؛ وهي مؤسسة نرويجية توجد في المنطقة القطبية، تخزن انواعا متنوعة من البذور تحسبا للكوارث الكبرى. وهناك "إدارة النفايات النووية السويدية" (من ضمن أعضاء "البرنامج الدولي الأساسي لرصد متغيرات المنطقة دائمة التجمد
-The Global Terrestrial Network for Permafrost")؛ التي تعتمد في عملها على دوام التجمد بتلك المنطقة.
قد يظهر أيضا تاريخ بشري محفوظ منذ القدم؛ لكنه قد يزول بسرعة أيضا.. فهناك موقع لقرية "بالايو- أسكيمو" المحفوظة بالتجمد في غرينلاند؛ التي تعود لنحو أربعة آلاف سنة، وهي مهددة بالانجراف.
هذا الموقع واحد فقط من 180 ألف موقع أثري حفظتها البيرمافروست؛ غالبا ما توجد فيها الأنسجة الرقيقة والملابس بصورة جيدة، لكنها ستتعرض للتعفن إذا انكشفت.. وهكذا سيضيع بعضها للأبد حتى قبل اكتشافها.
مخاطر على السلسلة الغذائية
لن تتعرض بعض المخلفات البشرية (غير المرغوب بها) الأكثر حداثة التي سيكشفها الذوبان للزوال؛ وأهمها- دقائق البلاستيك في البحر. نتيجة للحركة الدورانية للتيارات البحرية العالمية، ينتهي المطاف بالكثير من مخلفات البلاستيك في القطب؛ حيث تتجمد في مياه البحر أو البيرمافروست. كشفت دراسة حديثة عن جزيئات البلاستيك البحرية الدقيقة أن تركيزها في مناطق الحوض القطبي أعلى منه في باقي أحواض بحار العالم.
تضاعف تركيز تلك الجزيئات في بحر غرينلاند خلال سنوات 2004 - 2015؛ كما تؤكد "أيملي أوزبورن": "وجد العلماء أن دقائق البلاستيك تتراكم عبر المحيط بأكمله، لينتهي بها المطاف في القطب؛ وهذا أمر لم نكن ندرك سابقا أنه مشكلة. يحاول العلماء الآن إكتشاف تركيبات تلك الدقائق، وأنواع الأسماك التي تتغذى عليها، وما إذا كنا نحن نتناول تلك الدقائق عبر تناولنا لتلك الأسماك".
دخل الزئبق أيضا الى السلسلة الغذائية بسبب ذوبان جليد البيرمافروست؛ إذ بات القطب اليوم موطنا لجل مادة الزئبق على الكوكب. يُقدّر البحث الجيولوجي الأميركي أن هناك نحو (1,656,000) طنا من الزئبق محصورة تحت الثلج القطبي والبيرمافروست؛ وهذا يعادل تقريبا ضعف الكمية العالمية في جميع الترب والمحيطات والجو مجتمعة! تشرح ناتالي الأمر قائلة: "يرتبط الزئبق غالبا مع المواد العضوية في أماكن التركيز العضوي العالي.
ولأن أجسام الكائنات الحية لا تزيله؛ يتراكم بشكل حيوي ضمن شبكة الغذاء. هنا تحدث المسيرة المتكاملة: يتحرر الزئبق المخزون في البيرمافروست ويتسرب عبر أنظمة مياه الأراضي الرطبة، وهي البيئة المناسبة حيث تأخذه الكائنات العضوية، ليتجه الى الشبكة الغذائية. وهذا من مصادر القلق للحياة البرية والناس وصناعة صيد السمك تجاريا".
هل من أمل؟
بعد كل هذا؛ هل من جوانب إيجابية لذوبان الثلوج القطبية؟ هل يكون القطب منطقة أكثر اخضرارا، تنمو فيها الأشجار والغطاء النباتي لتحتجز المزيد من الكربون وتكون أرض رعي جديدة للحيوانات؟ تتفق أوزبورن أن القطب يزداد اخضرارا؛ لكنها تضيف أن الدراسات عن أعداد الحيوانات تفترض أن.. "درجات الحرارة الأكثر دفئا تزيد وجود الفايروسات والأمراض، لذا نرى اليوم زيادة توعك الغزلان والأيائل نتيجة زيادة دفء المناخ؛ فهو ليس بالبيئة المناسبة لحيوانات لا تنتعش بالدفء". كما تزايدت ظاهرة "إسمرار التندرا- Tundra browning"؛ إذ قاد ارتفاع درجات الحرارة لزيادة تبخر المياه السطحية وأدى لموت النباتات، كما عانت مناطق أخرى فيضانات مفاجئة بسبب الإنهيارات الأرضية. تعقب ناتالي: "هذا لن يحدث سنة 2100 أو 2050؛ انه الآن.. قد يقول البعض أنهم اعتادوا على قطف التوت هنا؛ لكنها اليوم أرض غارقة!"
رغم كل شيء ترى ناتالي أن باستطاعتنا فعل الكثير؛ فمصير المنطقة القطبية الشمالية ليس نتيجة مفروغ منها: "سيكون لإجراءات المجتمع الدولي تأثير كبير في مسار إنطلاق الكربون ونسبة البيرمافروست الذائبة. يتوجب علينا الابقاء على أكبر قدر منها بحالة التجمد؛ ولدينا بعض القدرة للتحكم بذلك.. لا يمكن أن يبقى مسار انبعاث الغازات على النسق الحالي؛ فالقطب يعتمد على ذلك، ونحن نعتمد على
القطب!".