الفيروس الذي قطع الشرق أوسطيين عن عادات أحبوها

بانوراما 2020/03/31
...

ترجمة: أنيس الصفار *

تحت اليافطة التي كتب عليها "للسفري فقط"، وبجانبه الزجاجة الكبيرة الحاوية لمادة مطهرة، راح مازن هاشم، 54 عاماً، يعيد تقليب الجمرات التي تسخن ماء شيشته خارج مقهاه المعروف في بغداد. وضع تلك اليافطة تجاوباً منه مع التعليمات التي فرضتها الحكومة لتقييد حرية الحركة والتجمع بقصد الحد من سرعة انتشار فيروس كورونا المتجدد. ولكن ما أن دلف الى الداخل حتى اكتنفته سحب بيضاء كثيفة من الدخان المعطر الذي اثقل الهواء، هناك جلس اكثر من اثني عشر شاباً يحاولون تمضية الساعات متجاهلين القيود والتعليمات. 

مع استمرار الوباء الجائح في الانتشار اخذت الحكومات في كل مكان من الشرق الأوسط تضيق على الناس مجالات ممارسة التقاليد والعادات التي أحبوها .. لم تعد هناك حفلات زفاف حاشدة ولا تجمعات أو مناسبات. في اليمن فرض الحظر على بيع القات، وهو نبات مخدر خفيف يمضغه الناس حين يجلسون معاً في حلقات .. ورحلت تلك الامسيات التي كان الرجال يقضونها في المقاهي الشعبية .. بيد أن الأهم من ذلك هو أنه لم يعد بالوسع تدخين الشيشة المعشوقة في الاماكن العامة.
في مثل هذه المناطق، حيث تتمحور الحياة عموماً حول نظام الاسر الكبيرة والولائم الجماعية والعادات القبلية، يصعب العمل بمبدأ التباعد الاجتماعي.
في العراق ينطلق صوت الانذار مرتين في اليوم مذكراً الناس بضرورة التقيد بحظر التجمعات العامة، ولكن هذا لا يكاد يكون له أثر في قاعة مازن للشيشة التي يعتبرها مصطفى احمد، ذو التسعة والعشرين عاماً، بيته الثاني الذي يأتي اليه كل يوم للالتقاء باصدقائه والتخفيف من رتابة الحياة.
حتى في أيام ذروة العنف الطائفي في العراق لم يكن مصطفى يطيق المكوث في بيته سبعة ايام متتالية، بل كان يأتي الى قاعة مازن لتدخين الشيشة مع اصدقائه.
يقول مصطفى: "لقد اعتدنا المجيء الى هذا المكان إبان الازمات، الاختلاف الوحيد هو أننا اليوم نخفي انفسنا عن أعين رجال الشرطة."
ارشادات السلامة التي يتبادلها كثيرون في العراق تتعارض في كثير من الاحيان مع الدعوات التي يوجهها خبراء من مختلف انحاء العالم بتجنب الملامسة المباشرة مع الاخرين والبقاء على مسافة آمنة منهم.
حتى المرجع الديني الموقّر آية الله العظمى علي السيستاني، الذي يتبعه ويطلب نصحه كثيرون في العراق، نادى بضرورة تجنب المصافحة بالايدي والمعانقة والتقبيل "إلا إذا أخذت الاحتياطات الكافية" وهذه تشمل التعقيم والكمامات الواقية والكفوف العازلة.
لكن مازن يقول أن معارفه يتجاهلون حتى تلك التحذيرات في اغلب الاحيان، فالعادة في العراق تقضي بطبع قبلة على كل خد عند اللقاء، ولهذا السبب يحتفظ بقنينة المطهر غير بعيدة عن يده.
يقول مازن: "كلما حياني أحدهم سارعت الى مسح يديّ ووجهي بهذه."
يقع محل الحلاق توني بولص، وعمره 60 عاماً، في نهاية الشارع وهو يحاول قدر استطاعته ان يحث على مراعاة التباعد بملصق ثبته عند مدخل محله يصور رجلين يميلان باتجاه بعضهما لتبادل التحية، وعلى الصورة علامة (x) كبيرة مع رسالة تحذير تقول: "اكتفوا بالمصافحة رجاء وامتنعوا عن التقبيل في هذه الظروف."
بيد أن المحاولة باءت بالفشل .. يقول توني: "العراقيون لا يكترثون بفيروس كورونا .. ولكن الحق أن يكترثوا."
توفي في العراق 40 شخصاً على الأقل متأثرين بفيروس كورونا، الذي لا يسبب لدى معظم الناس أكثر من أعراض خفيفة او معتدلة ولكنه يمكن ان يؤدي الى اعتلال صحي شديد يصل الى الالتهاب الرئوي وحتى الموت بالنسبة للبعض، لاسيما كبار السن أو من يعانون من مشكلات صحية مزمنة.
ينظر نجم عبد الله سعد، وعمره 70 عاماً، في الميزان مدققاً وهو يشتري كيلوغراماً من البرتقال من البقال قرب منزله في حي الكرادة. يقول نجم ان حظر التجول قد دمر حياته الزوجية لأن الخروج كل ليلة لتدخين الشيشة كان متنفسه الوحيد ومهربه.
في اليمن، الذي عانى حتى الان من اعباء حرب اهلية استمرت خمس سنوات، يعتبر مضغ القات نشاطاً يومياً يجمع الناس معاً لتبادل الاحاديث والنقاش. 
في مدينة عدن جنوبي اليمن حظرت السلطات اسواق بيع القات لمنع انتشار الفيروس، ولكن الباعة توصلوا الى سبيل يمكنهم من الاستمرار في بيعه، أما بمساعدة من الجماعات المسلحة المسيطرة على المدينة او ببيعه عند اطراف المدينة.
اما في الشمال، حيث يسيطر المتمردون الحوثيون، فتقول السلطات انها تخطط لنقل اسواق القات المزدحمة الى مناطق مفتوحة مع حظر التجمعات لأكثر من ثمانية اشخاص.
هذه المعايير قد يصعب تطبيقها في بلد تموج اسواقه بالحركة في كل مدينة وبلدة. فما أن يأتي وقت الظهيرة من كل يوم حتى يتوجه ما لا يقل عن 90 بالمئة من الرجال في اليمن صوب أقرب سوق محلية لشراء القات، كما يقول يوسف الحاضري المتحدث باسم وزارة الصحة الحوثية. يقول الحاضري ان تلك الاسواق تبقى مفتوحة لمدة ساعتين كل يوم، وهي فترة الازدحام.
رغم المخاوف المتنامية من تفشي الوباء في افقر بلد في العالم العربي وحدوث كارثة مدمرة يقول الحاضري مؤكداً: "الأمر ليس بهذه الخطورة."
في لبنان، الى الجنوب من العاصمة بيروت، تبدو مدينة صيدا شبه مهجورة. ذات يوم كان هذا الميناء يضج بالناس الذين تزدحم بهم المقاهي الشعبية، حيث يجلس الكهول وكبار السن يدخنون السكائر ويلعبون الورق والطاولة. هذه المقاهي أوصدت ابوابها منذ أن اصدرت الحكومة اللبنانية اوامرها بالاقفال الشامل في الاسبوع الماضي. 
في زاوية من الميناء محجوبة عن العيون يجلس قاسم بدير وهو صياد سمك مع مجموعة من اصدقائه لمناقشة الاوضاع. يجلسون وقد حافظوا على مسافة متر تفصل بين الواحد والاخر.
يقول قاسم: "لقد اعتدنا على لقاء بعضنا والجلوس في احد المقاهي بعد تعب اليوم لنتبادل الحديث ونلعب الورق. اما الان فلم يعد هناك عمل، ونحن نختلس هذه اللحظات القليلة للحديث والتخفيف عن بعضنا جالسين متباعدين هكذا، قبل ان ننصرف عائدين الى بيوتنا لنغلق ابوابنا علينا."
كذلك قلب الفيروس رأساً على عقب مخططات كثيرة لإقامة حفلات زفاف، هذه الحفلات في هذه المناطق غالباً ما تكون باهظة التكاليف حيث تصل اعداد المدعوين الى المئات. 
في بيروت كان بسام مكي، وهو صاحب محل للحلي والمجوهرات عمره 42 عاماً، في مراحل الاعداد الاخيرة من التخطيط لحفل زفافه عندما اندلع الوباء. كان هو وخطيبته قد اقترضا مبلغاً من المال وخططا لإقامة حفل يدعوان اليه 130 شخصاً في احد فنادق بيروت من فئة اربع نجوم. تلك الحفلة، التي حدد لها يوم 10 نيسان موعداً، الغيت.
يقول بسام محاولاً افتعال ابتسامة: "أعتقد أن الأمر لم يكن مقدراً له ان يكون." بيد أن هناك آخرين يمضون في تنفيذ ما خططوا له. فقد عثر روان محمد على قطعة ارض زراعية مكشوفة خارج دهوك، وهي المدينة التي يقطنها في شمال العراق، وقرر اقامة حفل زفافه هناك بعد ان اغلقت الحكومة المحلية في اقليم كردستان قاعات الاعراس والاحتفالات كجزء من اجراءاتها الوقائية.
يقول روان: "اخبرنا الجميع منذ البداية ان يحضروا لتهنئتنا والتقاط الصور معنا، ولكن بدون مصافحات او معانقة." 
سامية كلاب/عن وكالة أسوشيتد بريس