ضياع الشعر وتبخر الاحلام

ثقافة شعبية 2020/05/01
...

عادل العرداوي
 
ترددتُ كثيراً في أنْ أخوضَ في ميدان الكتابة لاستذكار بعضٍ من ملامح سيرة وشعر شاعر وفنان كبير بمكانة الشاعر الراحل الصديق جودت التميمي الذي غادرنا الى حيث الفراق الأبدي عام 2008، مخلفاً في نفوسنا نحن محبيه الحسرة والمرارة والألم تأسياً عليه وعلى حاله البائسة التي لازمته طيلة سنوات عمره الذي امتد لـ(80) سنة، وهو من ينطبق عليه المثل الشعبي العراقي البليغ (سبع صنايع والبخت ضايع..!) مع الأسى والأسف.
نعم كنت وما زلت متردداً لأنْ أخوضَ في حياة وسيرة جودت التميمي المتناقضة، التي هي عبارة عن حقل ألغام لا يعرف السائر في مسالكه المتشابكة متى ينفجر بوجهه لغم قاتل..!
حاولت تجنب ذلك ولكني وفاءً للصديقين المذكورين سأحاول أنْ أمرَّ على مشهد جودت التميمي مرور الكرام جهد إمكاني وأتمنى أنْ أوفق في ذلك، فقد أجمع الناس واختلفوا في تقييمه لأنَّ حياة وسلوك وظروف المرحوم التميمي كانت عبارة عن كوميديا سوداء محاطة بأسلاكٍ شائكة، وأكثر الناس الذين لهم علاقة ما به لا تحب المكاشفة والصراحة عنه وعنهم، وفي أي زمان ومكان، وتلك هي الطامة الكبرى.!
يقول جودت:
 
اجيتك شايل ابعيني.. سوالف عشره مذبوحه..
شرايين الكلب بجفاك.. للحسبات مرجوحه..!
انشد من أهل بغداد.. كلمن ملتهي بروحه..
هذه حال التميمي على لسان حاله هو.. وقس على ذلك.!
جودت التميمي المولود عام 1928 في قضاء علي الغربي بمحافظة ميسان/ العمارة، والقادم الى العاصمة بغداد مع أسرته الفقيرة التي سكنت في بادئ الأمر في إحدى مناطق الصرائف ربما في الشاكرية أو خلف السدة.. بداية خمسينيات القرن الماضي التحق التميمي متطوعاً في الجيش العراقي ليظل فيه الى ثورة 14 تموز 1958 عندها ترك عمله في الجيش، ليلتحق بتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي مؤيداً للثورة بكل قواه ومسخراً طاقاته الفنيّة والأدبيّة لخدمة الثورة، خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ أجواء الثورة ساعدته كثيرا لتنمية قدراته الفنية في مجال الخط العربي والرسم وكذلك في مجال نظم الاناشيد والهتافات الثورية التي كانت تلقى في التظاهرت والمسيرات الشعبية آنذاك حيث عاش ردحاً من تلك الفترات في مدينة المسيب حتى ظن الكثير من أصدقائه انه من أهل المسيب.. وهو ليس كذلك.
وفي غمرة تلك الأحداث الملتهبة اختلف التميمي مع رفاقه الشيوعيين وطلقهم بالثلاث ومعهم بقية التنظيمات الحزبيَّة الأخرى، وغادر المسيب عائداً الى بغداد ليستقر لدى أقارب له يسكنون في منطقة الوشاش بالكرخ، وليعمل صباحاً كاتب عرائض في الصالحيَّة بالقرب من بناية الإذاعة والتلفزيون، ليتيح له هذا الموقع أنْ يقيمَ علاقات واسعة مع مجاميع من العاملين في الإذاعة والتلفزيون من المخرجين والمذيعين والموسيقيين والملحنين والمطربين وشعراء الأغنية أيضاً، الأمر الذي سهل له عمليَّة الدخول الى الإذاعة والتلفزيون بسهولة ويسر وأنْ يؤسس له فيها موضع قدم وليلتحق فيها موظفاً يعمل في مجال تأليف الأغاني ومعداً لشتى البرامج الإذاعيَّة وممثلاً حسب الطلب للأعمال الدراميَّة لتلفزيون بغداد لأنه كان متواجداً في الإذاعة والتلفزيون من الصباح حتى المساء يداوم بدوام واحد مفتوح مكتفياً بلفة طعام بسيطة ورخيصة كوجبة غداء يحصل عليها من كافتريا الإذاعة مع استكان شاي، وفي المساء يذهب للقاء أصدقائه من الشعراء والفنانين الذين تجمعهم طاولة الشراب يومياً. وجيب ليل واخذ عتابه..!!
كان جودت التميمي شاعراً متمكناً سريع البديهة سريع النظم صياداً للمفردة الشعريَّة والغنائيَّة الرقيقة، لا يعتذر عن تنفيذ أي تكليف طارئ وعاجل للإذاعة وكانت الإذاعة - وأقصد هنا الإذاعات الرسمية الثلاث (بغداد والقوات المسلحة وصوت الجماهير) - تعد جودت التميمي الاحتياط القريب لها.
لحن وغنى له معظم المطربين العراقيين ومنهم مطربو الريف وعددٌ من المطربين العرب أيضاً من أبرزهم: سميرة توفيق وفهد بلان ونصري شمس الدين ونزهت وشقيقتها هيام يونس، ودلال شمالي وفائزة أحمد والثلاثي المرح وغيرهم، لا مجال لذكر أسمائهم جميعاً، وذلك في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
نشرت أنا للمرحوم التميمي الذي تعرفت عليه في العام ١٩٦٩ عشرات القصائد الشعبيَّة والغنائيَّة في الصحف والمجلات العراقيَّة التي كنت وما زلت أعمل فيها محرراً لصفحات الأدب الشعبي، وصدرت له مجموعة شعرية شعبيَّة واحدة فقط بعنوان (الكناطر) ضمت النزر القليل من نتاجاته الشعبيَّة ومجموعة أخرى من الشعر الفصيح بعنوان (الغربة)، وكان يعدُّ من أبرز شعراء المدرسة الحديثة في الشعر الشعبي العراقي وله قصائد مؤثرة كانت تذاع له عبر أثير برنامج (ركن الشعر الشعبي) من إذاعة بغداد الذي كان يعده ويقدمه المرحوم (أبو ضاري) سالم خالص، الذي كان يرتبط مع الشاعر التميمي بعلاقة متميزة.. وكذلك من برنامج الشعر الشعبي في إذاعة القوات المسلحة الذي كان يعده المرحوم الشاعر كاظم عبد الجبار.
ومن بين قصائد التميمي المعروفة (رمدة الشمس) التي يرد فيها على قصيدة (الريل وحمد) للشاعر مظفر النواب عام ١٩٦٤ التي يقول في مطلعها:
 
رمده الشمس ومعصبات اعيونهه
ابضيم الكدر..
رد للسلف خبر زلمنه الماوصل منهم خبر..
هيمه ومساحي امعكطه..
وجناز مكفوف النظر..
ويعدُّ التميمي من الشعراء الرواد الأوائل الذين كتبوا الومضة الشعريَّة الساخرة في ثمانينيات القرن الماضي وهذا أنموذج منها:
كطعت النمله جزيره..
وما تحرك شبر تمثال الرصافي..!
ومن مآسي حياة هذا الإنسان أنه تزوج لأول وآخر مرة من سيدة عراقيَّة اسمها (هيام) أو (شعلة) كانت تعمل ممرضة في أحد مستشفيات بغداد لكنْ مع الأسف لم تستمر حياتهما لفترة ستة شهور لا غير وانتهت بالطلاق، ويقال انها خلفت منه بنتاً اسمها (دموع).. وبعد الطلاق كان جودت يتذكر أيامه الجميلة مع هيام، لذلك كتب لها متوسلاً بالعودة له لكن من دون جدوى.
ليس هذا فقط بل إنَّ التميمي له قصائد جريئة أخرى في نقد الأعراف والتقاليد الاجتماعيَّة السقيمة التي ابتلت بها المرأة العراقيَّة في الحقب الماضية، منها على سبيل المثال لا الحصر قصيدته الشهيرة (الصيكل) التي يصور فيها حالة فتاة منكودة الحظ قادها أشقاؤها الى ضفاف هور الصيكل الواقع في أطراف ريف العمارة لغرض قتلها غسلاً للعار اشتباها بسلوكها.. قال وعلى لسان تلك المظلومة:
على جرفك يصيكل لعصر اعيوني..
وما خليش دمعه اتلوذ بجفوني...!
الحديث يطول ويطول عن هذا المبدع والإنسان المرهف الحس لأنه حديث ذكريات مشوبة بالألم والفجيعة والحسرة والعوز المادي وأحياناً العبثيَّة في التصرف والسلوك، التي وشحت حياة ومشوار جودت التميمي الذي ضاع تراثه الشعري الغزير والبديع وغير المألوف، ضاع جراء إهماله وعوزه المادي وعدم اهتمامه به، لا بل وتفريطه العبثي به، ما شجع مجاميع من المتشاعرين من أنْ يسرقوه وينحلوه بل ويسجلوه بأسمائهم بعلم ومعرفة صاحبه الحقيقي جودت التميمي لقاء جلسة شرب بائسة أو وجبة عشاء عابرة، وهنا تسكب العبرات الحرى...
آه من هاي الفجيعه.. آه من هاي النهايه..!
آه من نومي على اتراب الوطن مثل النفايه...
لا ردت منك رتوش... لا ردت منك امرايه..
ما ذكرته في هذه السطور العجلى، ما هو إلا نقطة من بحر متلاطم الأمواج اسمه جودت التميمي شهيد الضياع والعبثيَّة والصعلكة القاتلة وغير المبررة.