المعذبون في الأرض وطبيبهم النبيل

بانوراما 2020/06/29
...

هدى الاديب
 
 
 
يبدو أنَّ الدكتور طه حسين (1889 - 1973) العلّامة المتبحّر والناقد الأصيل والأديب اللامع لم يكن مؤثراً في أجيال من الأدباء والكتاب فحسب أو معلماً للنقد الأدبي في الجامعات والمعاهد أثارت طروحاته الجدل بل كان أستاذاً ومعلماً فاعلاً في اختصاص آخر قلّ المختصون فيه وهو (الإنسانيَّة) فقد أثر في كثيرٍ من الناس وكانت قصصه وأفكاره طريقاً سلكه بعضهم نحو المُثل السامية التي نادى بها طوال عمره، فهو العصامي العنيد الذي شغل الدنيا زمناً طويلاً، وتحول من طفل ضرير في أقصى مجاهل الصعيد إلى وزير وعالم كبير.
وكان من طلابه ـ في اختصاص الإنسانية - وتحديداً ممّن تخرجوا في كتابه الشهير (المعذبون في الأرض) وهو مجموعة قصصيَّة صدرت لأول مرة عام 1950 الطبيب محمد مشالي الذي تأثر بهذا الكتاب جداً فسار على نهجٍ فريد ليكون اليوم ظاهرة مائزة في عالم الطب والإنسانيَّة.
فهذا الكتاب الذي ضمّ بين دفتيه إحدى عشرة قصة تضمنت معاناة المجتمع ومشكلات الناس الفقراء والطبقة المعدومة والمرضى الذين لا يمتلكون أجور علاجهم جعل محمد مشالي يتأمله طويلاً ويتأثر به إلى حدٍ بعيد، إذ يقول: قرأت كتاب (المعذبون في الأرض)، وهو يوصي خيراً بالفقراء، ويؤكد على الإنسانيَّة وهي الصفة اللازمة لبني البشر والسلاح الأقوى في الدنيا والأبقى في الآخرة، كما يقول: فضلت أنْ أكونَ جندياً مجهولاً لخدمة الفقراء. ويؤكد أنَّ حادثة أخرى مهمة غيرت مجرى حياته للأبد هي وفاة طفل فقير مصاب بالسكري.. قرّر هذا الطفل أنْ ينتحر من أجل أنْ يوفر ثمن علاجه على أمّه المنكوبة بالفقر.. فمات بين يديه فكان أنْ قرر مشالي وللأبد أنْ يكون طبيباً للفقراء، أو على حد توصيف اللهجة المصريَّة (طبيب الغلابة) أو (ملاك الغلابة).
ولد هذا الرجل النبيل في مصر عام 1944م، ودرس في القاهرة طب (القصر العيني) وهو من الأوائل على دفعته عام 1967 تخصص في طب الأطفال والحُميّات، عمل لفترات طويلة في الأرياف ووصل إلى منصب مدير لمستشفيات عدة حتى تقاعد في العام 2004م بعد خدمة مشرّفة، إذ يشهد له بالنزاهة القاصي والداني.
فتح عيادته الخاصة منذ العام 1975 وهو يعالج الناس بأجور كشف بسيطة جداً (5 أو 10) جنيهات مصريَّة، أي نحو نصف دولار وهي أجور الفحص مع التحاليل في عيادة بسيطة وفي منطقة أهلها أحوج الناس للمساعدة بينما أجور الكشف عند الأطباء تبدأ من (200) جنيه وتصل إلى أرقام 
كبيرة.
عيادته الأصليَّة هذه يقضي فيها معظم وقته، إذ يبدأ عمله من الساعة العاشرة صباحاً إلى الساعة التاسعة مساءً ثم ينتقل إلى عيادتين في منطقتين مختلفين في طنطا.
لا عطلة لديه فهو يعمل حتى في الأعياد والمناسبات. الدكتور محمد مشالي لا يمتلك هاتفاً نقالاً ولا ساعة فخمة ولا سيارة من موديل حديث ولا يهتم بمظهره ويعيش على وجبة واحدة فقط ويستعمل المواصلات العامة، هوايته الوحيدة هي القراءة، إذ يقول: (إنَّ القراءة كل حياته) ولو وجد متسعاً ولو لخمس دقائق لاستثمرها في القراءة فهو ما زال يقرأ الجرائد الورقيَّة، إذ تتكدس الصحف والكتب حوله، ولو خيّر عن نوع الهدية التي يفضلها لكانت (كتاباً)، منحه نادي الزمالك عضوية شرفيَّة مدى الحياة، ونحت له الدكتور حمدي عبد الستار أستاذ الفنون الجميلة بجامعة المينا تمثالاً، كما نحت له فارس علي تمثالاً آخر.. 
ولكنَّ الأكيد أنَّ أهم تكريم له هو تمثاله المنحوت في قلوب 
الفقراء.