ايطاليا تنشر طريقة التعليم الرقمي

بانوراما 2020/08/24
...

توبايوس جونز  

ترجمة: مي اسماعيل

كانت مدارس شمال ايطاليا من أوائل المرافق الدراسية الاوروبية التي أغلقت أبوابها؛ ومنذ ذلك الحين تعيّن على المعلمين والأهل والاطفال التكيّف مع الظروف الجديدة؛ وكانت النتائج مفاجئة للجميع.

يتذكر أغلب سكان منطقة أميليا-رومانا بشمال ايطاليا كيف كانت البداية مع الشائعات، ثم المكالمات الهاتفية والرسائل من الاصدقاء.. وأخيرا تحقق الامر: سيجري اقفال جميع مدارس المنطقة لمدة اسبوع. كان القرار صادما من عدة جوانب؛ فحتى ذلك الحين لم يكن عدد الوفيات في ايطاليا بوباء كورونا سوى ارقام بسيطة. بدا غريبا أن التعليم هو الفعالية الاجتماعية الاولى التي جرى التضحية بها، واعتقد البعض ان السبب هو كون التعليم ليس منتجا اقتصاديا.. إذ لم تُقفل أي من النشاطات الاخرى، كملاعب كرة القدم والحانات والمتاجر ومنتجعات التزلج، كما لم تقفل المدارس في أية دولة اوروبية أخرى. 
يقول كاتب المقال: “بالنسبة لأطفالي القادمين من بريطانيا (بيني 15 سنة، ايما 13 سنة، ليو 9 سنوات) كان القرار سعيدا؛ فالدراسة في ايطاليا تبدو صارمة بالمقارنة بمثيلتها البريطانية. يذهب العديد من التلاميذ الى المدرسة ستة أيام اسبوعيا، ولا يُمنحون اجازة منتصف العام. هنا أصبحت لدينا مشكلة بقاء الاطفال في المنزل، كما هو حال العديد من الاصدقاء”.  كان الإعلان مفاجئا لدرجة أن المدارس كانت لديها خطط قليلة للتدريس عن بعد؛ وتعد ايطاليا من أقل الدول الغربية انفاقا على التعليم، من الابتدائية الى الجامعة. ولا يبدو للعديد من المعلمين الايطاليين كيفية معالجة الوضع الجديد الذي وجدوا انفسهم فيه؛ فتدريب المعلمين يكاد يقارب الحد الأدنى، وكثيرا ما يُلقى خريجو الجامعات في قاعات الدرس من دون معرفة بالنظريات التربوية أو الخبرة العملية، أما التفتيش التربوي فهو قليل جدا. والنتيجة أن أسلوب التعليم الايطالي يمكن أن يوصف بالتقليدي المتدهور؛ إذ يعد التلميذ أشبه بوعاء فارغ يجري ملؤه بمعلومات يجري استرجاعها عند الامتحان. 
طرق مبتكرة للتعليم
بسبب شح الأموال، ووفقا لبيانات “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- OECD” يعد معلمو ايطاليا من الاكبر عمرا؛ إذ جاوز نحو 59 بالمئة منهم سن الخمسين. المدارس الايطالية نمطية النظام؛ يأخذ فيها التلميذ مجموعة من الكتب الى المدرسة في حقائب ضخمة؛ وهو ليس بالأساس المشجع لعملية التدريس عن بُعد. ولكن ورغم كل المعوقات، يبقى الأمر خيرا من لا شيء؛ فإن فكرة اعادة تطبيق التعليم الرسمي بين جدران شقة صغيرة بلا حديقة أمر شاق. كانت الأسر تفتقد للوقت والطاقة وحتى معرفة أسلوب استبدال المعلمين. كما أعلن الاطفال أنهم لا يرغبون حتى بالمحاولة!   
وهكذا تعيّن على الأهل والمعلمين الاسراع لابتكار طرق يستمر عبرها تلاميذهم بالدراسة. لكن أمرا غير متوقع حدث ببطء؛ إذ بينما استكشفنا كيف يمكن لتجربة الدراسة في المنزل أن تعطي أفضل نتائجها، بدأنا نشعر بالإفادة من ذلك التعليم بقدر ما أفاده منه التلاميذ.
كان الأمر ممتعا في الايام الاولى، وتعيّن على الاطفال حفظ تهجئة بعض الكلمات، وحفظ مكونات الجدول الدوري للكيمياء اذا ارادوا مشاهدة التلفاز. ولأننا أسرة بريطانية تطوعنا لإعطاء دروس باللغة الانكليزية مدتها عشر دقائق لتعليم زملاء ابننا “ليو” المصطلحات اللغوية. وأرسلنا الدروس بعد تسجيلها بالفيديو عبر تطبيق “واتس آب” الى باقي التلاميذ. ورغم كل النوايا الطيبة؛ ساد شعور بالقلق بين الأهل، وبدأ البعض البحث عن متاحف ومسارح تعطي جولات رقمية عبر الانترنت. 
 
خروج عن المألوف
بدأ المعلمون بإرسال الواجبات المنزلية الى تلاميذهم؛ وظهرت متاعب المهمة وثقلها. كان إغلاق المدارس يعني أن على المعلمين ابتكار نوع مختلف من الصفوف الدراسية من نقطة الصفر، دونما إشراف من الوزارة ولا مواقع معتمدة على النت. يقول “دانيال مارتينو” (معلم دراسة متوسطة من تورين): “جميع فقرات هذا التعليم على النت صنعناه نحن المدرسين في اللحظة الأخيرة”. كان الأمر فوضويا عند البدء، بقليل من التنسيق بين معلمي المدرسة الواحدة، ناهيك عن المدارس المختلفة. أبلغ الأهل عن حيرتهم بين مواقع ومنصات رقمية متعددة؛ ولم تقتصر المشكلة على انهيار مواقع التدريس بسبب الضغط عليها، إذ استخدمها نحو ثمانية ملايين طالب؛ بل إن بعضهم لم يصل اليها قط..
تأتي ايطاليا بالترتيب 24 بين 28 دولة اوروبية من حيث الاداء الرقمي، ولا تمتلك نحو 24 بالمئة من الأسر منفذا الى الانترنت. قال أحد المعلمين: “أخيرا اكتشفنا مدى أهمية وديمقراطية القلم الرصاص والورق!”. حاول المعلمون ايصال الحواسيب المحمولة وخطوط الانترنت الى التلاميذ الذين لا يملكونها، وأعلنت وزارة التعليم يوم 19 آذار عن توزيع نحو 46 ألف حاسوب لوحي “tablets” عبر البلاد، وتخصيص سبعين مليون يورو لتوفير الحواسيب لمن لا يملكوها. لكن فائدة التلاميذ كانت متفاوتة؛ كما وصفها أحد المعلمين قائلا: “من كان يحقق نتائج جيدة في الدرس الاعتيادي سيُبلي حسنا هنا؛ أما ذوو الاحتياجات الخاصة فيتخلفون عن المسيرة”. 
عانى المعلمون كثيرا من مشاكل تقنية، وهنا كان التلاميذ يسارعون لنجدتهم وتذليل العقبات. لكن التوازن بين المعلمين وتلامذتهم اختل بصور أخرى أيضا؛ ففي الدروس الرقمية كان باستطاعة التلاميذ التهرب بسهولة أكبر اذا فقدوا الاهتمام؛ إذ قد يصطنعون مشاكل تقنية أو يجمدوا الكاميرا ويغلقوا المايكروفون، وغيرها.. تقول معلمة التاريخ “بيتا سالفيني: “لم يعد بالامكان تقديم الدرس بطريقة طرح المعلومات المباشرة؛ بل يجب اشراك التلاميذ طيلة الوقت لاستقطاب انتباههم وضمان حضورهم”. 
 
نجاحات وإحراج
كان على العديد من المعلمين التعامل برفق مع التلاميذ، الذين فقد بعضهم أجدادا أو أقارب بسبب الوباء، أو فقد والديهم أعمالهم للسبب نفسه. وهنا كان على المعلمين أن يقوموا بدور عامل تثبيت اجتماعي وطبيب نفسي ومدرس في الوقت ذاته. مع انطلاق تجربة التعليم الالكتروني طلب بعض المعلمين من تلاميذهم أن يكونوا هم المحرك الدافع للدروس، بتقديم الاسئلة المتواصلة وطلب التوضيحات حسب الحاجة؛ رغم ان ذلك يفرض ضغوطا على الطرفين، بسبب غياب أوقات التدريس 
لمنتظمة. 
وكان غياب الضوابط مصدر نفع وإحراج في ذات الوقت؛ إذ شعر البعض بالخجل من كشف واقع منازلهم وغرفهم (وحتى والديهم) أمام الآخرين. ومن جانب آخر وجد المعلمون جوانب أخرى لشجاعة التلاميذ الأدبية ومعارف لم يكشفوا عنها في زحمة الدروس الاعتيادية؛ وهو أمر وصفه المعلمون بأنه.. “نوع مختلف تماما من التعليم”.  
 
صحيفة الغارديان البريطانية