لم تكن الوحيدة في عهده.. ترامب وتناقضات العفو الرئاسي

بانوراما 2020/12/30
...

ميشيل غولدبرغ
ترجمة: أنيس الصفار 
كان أصغر ضحايا مجزرة ساحة النسور ببغداد في العام 2007، على يد مرتزقة "بلاك ووتر" الذين أعفاهم "دونالد ترامب" من محكومياتهم يوم الثلاثاء الماضي، يبلغ من العمر 9 سنوات، واسمه علي الكناني. في فيلم وثائقي أنتج عام 2010 أجرى الصحفي "جيرمي سكاهل" مقابلة مع محمد حافظ عبد الرزاق الكناني، والد علي، الذي تحدث عن بهجته بمجيء القوات الأميركية وكيف خرج بنفسه ومعه ولده لتحية الجنود الأميركيين.
بحلول ظهيرة يوم 16 أيلول 2007 كان الكناني يقود سيارته متجهاً صوب ساحة النسور ومعه شقيقته وأطفالها وولده علي حين فتح حراس يعملون لحساب شركة "بلاك ووتر" النار بالمدافع الرشاشة وقاذفات القنابل اليدوية، فكان علي واحداً من 17 شخصاً قتلوا جراء ذلك. 
وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" فإن تقرير الجيش الأميركي لم يجد سبباً مبرراً او استفزازاً وراء ما وقع، وقال مسؤول عسكري خلال مقابلة مع الصحيفة المذكورة: "من الواضح ان ذلك كان تمادياً ومن الواضح ايضاً أنه كان بلا مبرر". 
ووصف تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي الحادثة بأنها "مجزرة ماي لاي العراقية" (مجزرة ارتكبها الجنود الأميركيون في فيتنام بحق قرويين عزل في آذار 1968 - المترجم).
عرضت السفارة الأميركية على أسرة علي مبلغ عشرة آلاف دولار كمواساة لهم. رفضت الأسرة المبلغ في بادئ الأمر، لكنها عادت فتبرعت بنصفه لأسرة جندي أميركي لقيَ مصرعه في العراق. 
قال المحامي "بول ديكنسون" الذي توكل عن الكناني وآخرين في الدعوى المدنية ضد "بلاك ووتر": "ما أرادوه بذلك هو تكريم الرجال والنساء الذين قدموا الى العراق لتحريره من حكم صدام والإقرار بفضلهم".
حينها كتب الجنرال "راي أوديرنو"، الذي كان قائد القوات الأميركية في العراق" الى والدة علي يقول: "العطف الذي أبديتموه وشعوركم بحزن الأسر الأميركية رغم المأساة الشخصية التي تعرضت لها أسرتكم محرك للمشاعر حقاً".
 
قرار متوقع
حتى يوم الثلاثاء الماضي كان القضاء الأميركي يعمل لإنصاف أسرة علي ولو بالقليل المستطاع. 
سوت شركة "بلاك ووتر" الأمر مع الأسرة ولقيَ الحراس محاكمة جنائية. 
كانت محاكمة طويلة مرهقة تخللتها عقبات كثيرة، ولكن شخصيات متنفذة في الولايات المتحدة أعلنت عن إصرارها على أن تمضي الاجراءات في مسارها. 
وعندما أسقط القاضي التهم الموجهة لأسباب شكلية تتعلق بالاجراءات وعد نائب الرئيس "جو بايدن" خلال مؤتمر صحفي عقد في بغداد سنة 2010 بأن يكون هناك 
استئناف. 
قال بايدن: "الولايات المتحدة مصممة على محاسبة كل من يرتكب جرائم بحق الشعب العراقي".
أخيراً أدين ثلاثة من الحراس بتهمة ارتكاب "فعل متعمد أسفر عن مقتل أشخاص" وتهم أخرى، فيما أدين الرابع واسمه "نيكولاس سلاتن" بجريمة القتل وحكم عليه العام الماضي بالسجن مدى الحياة.
وجاءت موجة قرارات العفو لتشمل سفَّاحي "بلاك ووتر" وكذلك مجرمي ما يسمى "روسيا غيت"، فضلا عن عضو سابق فاسد في الكونغرس وآخرين. 
لم يكن مفاجئاً ان يتحرك ترامب لتحرير المرتزقة، لأن تعاطفه وحماسه ازاء جرائم الحرب معروفان للجميع، ففي السنة الماضية كان قد أعفى ثلاثة رجال متهمين او مدانين بهذه الجرائم. 
أما مرتكبو جريمة ساحة النسور فقد كان بعض المحافظين يطلقون عليهم تسمية "رباعي بايدن" في اشارة الى تصريحات بايدن في العام 2010 فأعطى هذا ترامب دافعاً إضافياً لاطلاق سراحهم. 
عدا هذا فإن "إيريك برنس"، مؤسس شركة "بلاك ووتر"، حليف لترامب ومن المقربين، كما أنه شقيق "بيتسي ديفوس" وزيرة التعليم في 
إدارته.
كانت هذه الاعفاءات التي أقدم عليها ترامب متوقعة ونحن عاجزون عن تصوير مدى صدمتنا بها، بيد أن هذا كله ليس كافياً للتهوين من بشاعتها. 
لقد استحالت أيام ترامب الأخيرة في الحكم الى حفلة عربدة بلا حسيب، وانطلق الرئيس يوزع المكرمات والمنن كالهدايا مهيناً وجه أميركا باستخدام سلطاته لوضع أنصاره خارج طائلة 
القانون. 
في يوم الاربعاء عفا ترامب عن مزيد من مقربيه ومن بينهم مدير حملته السابق "بول مانافورت"، لعل ذلك كان مكافأة له على إفشاله التحقيق الذي أجراه "روبرت مولر". ولكن وسط لحظات الدناءة هذه كلها يبقى إعفاء سفَّاحي "بلاك ووتر" شاخصاً بانحرافه. 
تلك الاعفاءات ايضاً هي أصدق تعبير عن العقيدة الترامبية، إذ يحظى البعض بترخيص مطلق في حين يملي على البعض الآخر الرضوخ المطلق. 
في السنة الماضية تدخل ترامب لنقض قرار اتخذ بخفض رتبة "إيدي غالاهار" قائد قوات العمليات الخاصة التابعة للبحرية بسبب التقاطه صورة تذكارية مع جثة 
قتيل. 
تلك الصورة جعلت العاملين تحت إمرته يصفونه بأنه "الشر المفزع"، أما الرئيس فلم يكتفِ بإعفاء غالاهار بل جعل منه أسداً هصوراً وجعلت منه حركته أيقونة فخر.
فقدان الإيمان بالقانون
قد يحق لمن أراد المحاججة القول إن كل ما فعله ترامب ببساطة هو أنه أماط قناع التصنع عن وجه الديناميكيات التي كانت دائماً المحرِّك الكامن وراء "الحرب على الإرهاب". كتب "سبنسر أكرمان" في مجلة "ديلي بيست" قائلاً: "لقد استمدت بلاك ووتر مبررات فعلتها من المنطق الأميركي نفسه الذي قام عليه الاحتلال، ومنه اكتسبت حصانتها، ذلك المنطق الذي عدَّ حتى اولئك العراقيين الذين عملوا مع الأميركيين مجرد عاملين محليين لا يحق لهم دخول قاعات الطعام في القواعد العسكرية الأميركية إلا من خلال أبواب معزولة مخصصة لهم".
ربما كان النهج الذي طبق في العراق قبل ترامب موبوءاً بالتصنع ولكن ذلك التصنع يشي على الأقل بوجود سياسة خارجية ذات تطلعات إنسانية، تطلعات أتاحت لرجل مثل الكناني أن يقاضي ويطالب بحقه في البلد الذي احتل بلده. تحدث الكناني الى محطة "بي بي سي" فقال إن قرارات ترامب بالعفو عن القتلة جعلته يشعر وكأن ولده علي قتل مرة أخرى. 
قبل ذلك كان الكناني يؤمن بأن لا أحد يعلو فوق القانون، ولكن هذا الإيمان لم يعد له وجود. فلو عاش علي لكان عمره اليوم 22 عاماً. يقول الكناني: "أشعر اليوم بأنني عدم .. لقد فقدت ولدي وأشعر أنني عدم".
تشير الدلائل كلها الى أن رئيس الولايات المتحدة يوافق الكناني فيما قاله، ويتفق معه على أنه ليس سوى عدم.