مرثاة الآخر.. مرثاة الذات

ثقافة شعبية 2021/01/16
...

 سعد صاحب

 
 
يمر الشعراء بانقطاع الالهام، الذي يسمى «الحبسة» يشعر في داخله كلام، يخونه التعبير عن تسطيره على الورق، وهذا ما عاناه الشاعر الشهيد رحيم المالكي: «أنه ميت شعر واتوسل الشيطان.. يا شيطان شعري انكطعت أخبارك.. كبل جنك جحا كلسه تدك الباب.. ما رايد شعر مر واخذ بسمارك».
يشير المالكي الى التمسك بالكتابة؛ لاننا من خلالها نخلق عالما مختلفا عن الواقع المعيش، وعند موت الشاعر الاصيل تختل الموازين؛ فالقصائد في اصعب الظروف تمنحنا الحرية والمتعة والسلام والشغف، وتعوض ارواحنا ما ضاع من أماني وما مر بها من خسارات، وتتناغم مع دواخلنا بمشاكسة الوجود: «يا شيطان شعري الشاعر من يموت.. يتعطل فرض والكون يتدارك».
الشعراء نوعان.. الاول حول الشعر الى مهنة مربحة، فهو مقابل المال يقلب الحقائق، ويمدح غير المستحق ويسبغ عليه صفات كاذبة، والمالكي بالضد من شيطان الشعر المخادع: «انه واثق عفتني وروح لا رديت.. يوم افراك وجهك يوم المبارك»..
 والنوع الثاني سيد نفسه ومشغله الشعري يعتمد على التقنية القابلة للتطور، وصاحب حساسية مرهفة تشمل الفطنة والتعارض والارتعاش والتنوير، ولا ينتمي الى الضجيج الفارغ المتمثل بالاسلوب المعتاد الذي لا يتعدى المواضيع الجاهزة، واللهاث وراء المديح التقليدي، وحتى المدح يحتاج مهارة، فالمتنبي يسمو بالمادح ويسيء الى الممدوح: «اشجنيت من الشعر لو سجن لو طعنات.. ساعة اصفة ويه ربعي وعمر نتعارك».
الوفاء واضح الى صديقه غني محسن؛ فكل الذي يتمناه يرثيه بقصيدة، وبعدها لا يبالي بجفاء القوافي وخصام الحروف: «بس لحظات محتاجك قبل لتروح.. أريد أرثي غني وروح اكطع ابحارك» ثم يثني على شاعرية الراحل الذي كتب ملحمته الاخيرة بنيران الحرائق المشتعلة، ونال الشهادة في تفجير غادر: «يا صاحب غني الماعفته حد الموت.. وكتب آخر قصيدة من وهج نارك.. جان القلم شظى والحبر نيران.. الشهادة اكبر قصيدة تدوخ أفكارك».
غني محسن ليس من سلالة الشعراء الفحول، والمقصود هنا الذين يعتمدون برزقهم على المغانم والمكاسب والعطايا، بل هو من قبيلة الفقراء الذين يكسبون قوتهم بالتعب والشقاء والمعاناة: «غني دور ورق ما لكة وما تاناك.. كتبها وصعد بيها وما نزل جارك».
ثمة نبوءة في قصيدة رحيم المالكي، وهي الاحساس الكامل باقتراب المنية، واخذ الثأر من الموت، وذلك بالالتحاق بصاحبه عن طريق الاستشهاد: «غني والفقرة ظلت بيهم شوصيت.. غني وصيت من ياخذ بثارك».
يثير انتباهنا البيت الحامل للمفارقة والدهشة والصدمة، والفاضح للعديد من الاقنعة  المزيفة: «غني كلش غني بس بعده بالايجار.. غني يا هو الشريف اليدفع ايجارك».
استشهد المالكي بعده بايام قليلة، وشارك زميله في وليمة الموت المعدة للعراقيين بامتياز من قبل الاشرار: «يا أكبر حرامي بكت كومة اكلوب.. رجع اكلوبنه وبالموت نتشارك».