الإخلاء الجوي الأكبر في التاريخ

بانوراما 2021/04/08
...

 تشارو سودان كاستوري
 
  ترجمة: بهاء سلمان
ذهب فيجو تشيريان ذو الثماني سنوات الى سريره في مدينة الكويت ليلة الأول من شهر آب سنة 1990، مع شعور باللهفة لحفلة عيد ميلاد أحد أصدقائه التي ستجري في الغد، لكنه استيقظ صباح اليوم التالي على خبر إلغاء الحفلة، فقد صارت الكويت تحت الاحتلال، والناس المحتفلون كانوا فقط جنود صدام، بملابس عسكرية يمثلون جزءا من الغزو، وقامت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بتحرير الكويت بعد ستة أشهر، في عرض قوة أميركي غير مسبوق. قبل ذلك، ومع هذه الحال، كان تشيريان جزءا من إنجاز لا مثيل له: الإخلاء الجوي الأكبر في التأريخ.
أوضاع مزريَّة
كان تشيريان وأسرته ضمن نحو 176 ألف مواطن هندي علقوا في الكويت حينما وقع الغزو. وحظرت الأمم المتحدة، من خلال قرارات مجلس الأمن، جميع التعاملات التجارية والاتصال مع العراق والكويت، بالتالي أصبح الهروب مستحيلا. وفي مواقف السيارات عبر مدينة الكويت، كسر جنود صدام السيارات وسرقوها، ويستذكر تشيريان أن «سيارة تويوتا كورولا كانت المفضلة لديهم».
ومع تجمع غيوم الحرب، تمكّنت الحكومة الهندية، غير المستقرّة آنذاك بسبب الأحزاب المتعددة، من تحويل الكويت الى نقطة إنطلاق لما اعتبرته سجلات موسوعة غينيس العالمية أكبر نقل جوي على مر الأزمنة، لقد كان انقلابا دبلوماسيا، فالتوسل بحكومة صدام مع امتصاص ردود الأفعال المريرة لدى الكويتيين في الوقت نفسه لم يكن هيّنا، ناهيك عن الإحراج الناتج من صور تظهر وزير الخارجية الهندي وهو يعانق صدام في بغداد لإقناعه بالموافقة على عملية الإخلاء.
في النهاية، ومع ذلك، نجحت الهند بنقل مواطنيها من الكويت الى عمّان، الأردن، عبر العراق، والطيران بهم الى بلادهم قبل إندلاع الحرب. استغرقت العملية شهرين طويلين، لتصير نسخة مماثلة لمهمات إنقاذ هندية أخرى أقل حجما لاحقا في عمليات نقل بعد سنوات من عملية الكويت. يقول كالاريكال فابين؛ الدبلوماسي الهندي المتقاعد، الذي نسق مهمة الإنقاذ سنة 1990: منحتنا هذه العملية الثقة لإجراء إخلاءات أخرى مجددا. ومثل تشيريان، يتذكر فابين بوضوح لحظة علمه بغزو صدام للكويت، فقد تلقى بوقت مبكر من صباح الثاني من آب اتصالا هاتفيا من أصدقاء يعملون لدى وكالة دولية، نقلوا رؤيتهم لمركبات عسكرية عراقية تجول داخل العاصمة الكويتية.
 
المواطن الهندي أولا
ردت معظم الدول برد واحد، وهو الإدانة الشديدة، لكن الهند كانت في ورطة، فمن معيّن، كانت غالبية الدول العربية الصديقة للهند من أشد المنتقدين للغزو، ومن جانب آخر كان عدد كبير من الهنود محتجزين كرهائن. ودعا تشينمايا غاريخان، ممثل الهند الدائم لدى الأمم المتحدة، إلى الانضمام إلى بقية العالم في «إدانة» الغزو، لكن الحكومة اختارت تحديدا «الشجب» الأخف وطأة للتعبير عن موقفها. يقول فابين، الذي عمل لاحقا سفيرا في قطر وإيطاليا: «كان همنا الرئيس هو سلامة مواطنينا، وإمكانية إخراج جيش صدام من الكويت عبر المفاوضات».
بيد أن الكويت كانت لديها أولويات أخرى؛ فعندما ذهب وزير الخارجية الهندي آنذاك، اندير غوجرال، الى نيويورك في أيلول 1990 لحضور جلسات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أبلغ وزير خارجية الكويت الشيخ صباح الأحمد أن «الهند تقف مع الكويت بنسبة 110 بالمئة،» يتذكر غاريخان. كان رد الوزير الكويتي مقتضبا: «سعادة الوزير، مئة بالمئة ستؤدي الغرض، نحن فقط نريد من دولة عظمى مثل الهند أن تعلن إدانتها».
لكن خلال تلك الفترة، كانت الهند توظف تقرّبها من صدام لمصلحتها؛ ففي العشرين من آب، طار الوزير غوجرال إلى بغداد، حيث التقى وزير الخارجية طارق عزيز، وبعدها بيومين، التقى صدام، الذي كان يرتدي بدلة عسكرية بمسدس. ويستذكر غوجرال في سيرته الذاتية: «لقد عانقني صدام عندما كنت أهم بتحيّته». وعلى الفور، انتشرت تلك الصورة عبر العالم، لتضع الهند بموضع المدافع مع حلفاء آخرين، لكن فابين يرى أن غوجرال لم يملك خيارات أخرى: «عندما يريد مستضيفك عناقك، لا يسعك تجنبه.» بأية وسيلة كانت، وافق صدام على الإخلاء، لكن عقوبات الأمم المتحدة جعلت من غير الممكن إرسال الهند طائرات الى الكويت أو العراق، فكان من اللازم اخلاء 176 ألف مواطن هندي برا لاجتيازهم الحدود قبل ركوب أية طائرة.
 
رحلة مضنيَّة
وبعد اغلاقهم لشقتهم في مدينة الكويت، إنضمت أسرة تشيريان الى سيل من رفاقهم الهنود المتوجهين نحو حافلات توجهت أولا نحو مدينة حدودية، ومن ثم إلى العراق. وبعد عبور عدة نقاط تفتيش، وصلوا بغداد وتوقفوا لليلة واحدة. ثم أوصلتهم الحافلات لاحقا الى مخيّم صحراوي حيث قضوا ليلة أخرى. وفي اليوم التالي، قادتهم الحافلات الى رقعة من الأرض «خالية من البشر» بين العراق والأردن، حيث مكثوا هناك داخل مخّيمات اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، قبل نقلهم في النهاية إلى مطار عمّان مباشرة.
يصف تشيريان الليلة التي قضاها في المطار كونها «الأكثر فوضوية» خلال المحنة التي عاشها، وكان على الجميع عبور «جسر جوي» بمسافة أربعة آلاف كيلومتر شيّدته شركة الطيران الهندية لأجل سلامتهم. وعلى مدى 63 يوما، أرسلت شركة الطيران الوطنية 488 رحلة إخلاء مجانية من عمّان الى مومبي، منهية بها معاناة مواطنيها العالقين.
بحلول العشرين من تشرين الأول، اكتملت العملية، وشهد الشهر التالي استقالة الحكومة الهندية، غير أن عملية النقل الجوي ولّدت إرثا يبقى حيا لليوم في الكويت؛ فعندما انتهت حرب الخليج، عاد آلاف الهنود إلى الكويت، بضمنهم والدا تشيريان، فالكثيرون عادوا لأن معيشتهم تتطلب
 ذلك. 
لكن بالنسبة للبعض، هناك أيضا شعور بدعم الدبلوماسية الهندية لهم، بحسب تشيريان. اليوم، يؤلف نحو 800 ألف هندي ما نسبته 20 بالمئة من سكان الكويت، وهم الجالية المغتربة الأكبر هناك، ولن يذهبوا الى مكان
 آخر.